القرآن المجيد

03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

من أسرار البلاغة وفنون العلم التي جاءت في القرآن الكريم، ويجدر بكل مسلم التفكر فيها، والتدبر في معانيها، القَسم في القرآن. والمتتبع لآيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته وأقسم بآياته ومخلوقاته وبمظاهر الكون، ويوم القيامة، لتهيئة السامع، وإعداده إعداداً صالحاً لما يأتي بعد القَسم.
يأتي ذكر القسم تأكيداً، لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، الذين عهدوا على إثبات مطالبهم بالحلف واليمين والقسم، إذ كانوا يقطعون كلامهم بالقسم، بهدف تحقيق الخبر وتوكيده.
قال تعالى:«ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَ إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ».
ورد هذا القسم في الآيات الأربع الأولى من سورة ق، وهي الرابعة والثلاثون في ترتيب النزول، والخمسون في ترتيب المصحف الشريف، وهي مكية وعدد آياتها خمس وأربعون.
وهاهنا اتحد المقسم به والمقسم عليه وهو القرآن، فأقسم بالقرآن على ثبوته وصدقه، وأنه حق من عنده، ولذلك حذف الجواب ولم يصرح به، لما في القسم من الدلالة عليه، أو لأن المقصود المقسم به نفسه كما تقدم بيانه.
يقول محمد هشام الشربيني في كتابه «بهذا أقسم الله»: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة فيجعلها موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة. وإن لها لشأناً، إنها سورة رهيبة شديدة الواقع بحقائقها شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله التي لا تدعها لحظة واحدة، من المولد إلى الممات إلى البعث إلى الحشر إلى الحساب، وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقاً كاملاً شاملاً.
تبدأ السورة بالقسم بالحرف «قاف» وبالقرآن المجيد، المؤلف من مثل هذا الحرف، بل إنه هو أول حرف في لفظ «قرآن» ولا يذكر المقسم عليه، فهو قسم في ابتداء الكلام يوحي بذاته باليقظة والاهتمام، فالأمر جلل، والله يبدأ الحديث بالقسم فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء، إذ يضرب بعده بحرف«بل» عن المقسم عليه، بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب، ليبدأ حديثاً كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد، من أمر البعث والخروج. هذا هو المقطع الأول من السورة. وهو يعالج البعث، وإنكار المشركين له، وعجبهم من ذكره والقول به. والقرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده، إنما يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلاً إلى الحق، ويقوّم ما فيها من عوج، ويحاول قبل كل شيء إيقاف هذه القلوب وهزها، لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود.
من ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث، وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب، وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب.
وفى قوله عز وجل «أ إذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد» والمسألة في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى. وهي نظرة ساذجة لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى. كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة، وتحيط بهم في جنبات الكون كله وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة، فالناس يموتون ويصيرون تراباً وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه، وإلى غيره من الأحياء حوله. يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور. والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئاً فشيئاً:«قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ».
لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها، وتأكلها رويداً رويداً. ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى ليقول: إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم وهو مسجل في كتاب حفيظ: فهم لا يذهبون ضياعاً إذا ماتوا وكانوا تراباً. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"