أزمة ضمير

02:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

كل البشر اعترفوا بفوائد غسل اليدين، عند كل تماس أو تواصل مع الأشياء والناس، حتى لا يسبب هذا التماس ضرراً بالنفس، أو يلحق أذى بالآخر.

وفي لحظة صفاء في يوم من أيام شهر رمضان، وقبيل أذان المغرب، عدت إلى الكتابة الوجدانية عن اليوميات في زمن كورونا، وتذكرت هذا «الاعتراف» البشري، بفعل خطر هذه الجائحة الشرسة، وخطر في البال، والعالم يسعى للخروج من هذا الكرب، ويقبل على الحياة الطبيعية رويداً رويداً وحذراً، ما الذي يحول دون أن يكون هذا الإقبال على الحياة محكوماً بالحكمة، التي توفر فهم ما جرى، وتمكن من تمثُّل الحقائق وإدراك السنن؟ وليلنا، وقد طال، وهو «يرخي سدوله كموج البحر»، ويُبعد عنا خواطر السياسة وألغازها، وطلاسم عالم هذا القرن، وما فيه اليوم وما سيتخلَّق بعده، ويلح عليَّ أن أعود إلى تسجيل خواطري وتأملاتي. ويشتد الإلحاح، كلما لاحت خاطرة، تستدعي إعادة النظر في أمور الحياة.

ما معنى أن تكون مخلصاً في عملك، وعادلاً في تعاملك مع من حولك، ومنصفاً مع الآخر؟ هل يكفي القول إننا في ذلك نملك الحرية في القرار، وإن لدينا العقل الحر في التفكير والاختيار، أم إن هناك أيضاً إحساساً بالرضا، وبشكل قوي، لأننا لم نتسبب بإحداث ضرر أو أذى للآخر؟

هذا الإحساس بالرضا، والسعادة، مرجعه إلى وجود قوة كامنة خفية تسكن أعماقنا، وتعبر عن جوهر إنسانيتنا الطبيعية. إنها الضمير الأخلاقي (النفس اللَّوامة) يضمن للإنسان إنسانيته، وهو القانون الأخلاقي الذي يؤنبنا إذا أخطأنا، ويجلدنا إذا كذبنا، أو إذا لم ننتصر للضعفاء والمحرومين والمهمشين والمقهورين، وهو ما عبر عنه الكاتب الروائي ماركيز بعد أن كتب في روايته «مائة عام من العزلة»، وقتل فيها أحد شخصيات روايته «العقيد بوينديا»، فقد صعد إلى غرفته ينتحب حزناً على هذه الشخصية التي قتلها في الرواية، قبل أن يخلد إلى النوم.

الرسام والفنان والروائي الذين ينحاز ضميرهم الفني والأدبي إلى ضحايا فيروس «كورونا»، ويعبرون عن معاناتهم في لحظات ما قبل الموت والرحيل، وضحايا آخرون صرعهم العنف والإرهاب والبغاة والطغاة والعنصريون.

تذكرت تلك اللوحة الشهيرة، التي أثارت في نفسي الفزع، حينما شاهدتها أول مرة في أحد متاحف أوروبا، وربما في هلسنكي، قبل سنوات، وهي للرسام النرويجي أدفارد مونك، والتي رسمها في نهايات القرن التاسع عشر، وعنونها باسم «الصرخة»، وجسدت معاني القلق والخوف في ملامح إنسان استطال وجهه، وتشوهت ملامحه، في ظل ألوان وخلفيات تعكس كوابيس وبراكين غريبة، وكأنه يُعبِّر عن الصرخة في أعماق النفس البشرية، ومخاطباً العالم، ومحذراً من القادم المخيف، ويناشد تعاطف الضمائر مع معاناة البشر، من جوع أو خوف أو ألم أو عنف.

يولد الضمير بالفطرة، ويحتاج إلى تربية وتدريب، ومنظومات قيمية مجتمعية، تربّي الإنسان على كل ما هو نبيل وإنساني، وتحفزه على مطاردة الشرور، في الأماكن المعتمة من النفس البشرية، قبل أن يواجهها في السياسة والحرب.

حضرت إلى الذاكرة، في تلك الليلة، صورة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، وهو ينشد بكائية المطر، أو «أنشودة المطر» في منتصف خمسينات القرن الماضي، وكأني بضميره الإنساني، يشتعل، وهو يصيح بالخليج، «يا خليج.. يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى».. «فيرجع الصدى كأنه النشيج».. يبكي لدموع الجياع والعراة.. ويصف المطر، وهو يفجَّر أحزانه.

ويصرخ ضميره متوجعاً «ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع». بكائية نبوءة لضمير حي، وكأنه يقرأ أزمنة مدن عراقية وقرى عربية ومخيمات لجوء ونزوح راهنة.

إنه الضمير كقانون في منظومة الفطرة الإنسانية، حيث الشعور بالخير والشر، والعدل والظلم مفطور في النفس البشرية، وما تقوم به الشرائع هو تأكيد هذا القانون الطبيعي وتكميله وتوضيحه، بحيث لا يكون حكماً إلا بقبولنا له، وعندها يتحول إلى معتقد داخلي يحكم السلوك.

إنها «النفس الإنسانية اللَّوامة»، التي تحاسب صاحبها عما بدر منه، أو سكت عنه، وتحتاج هذه النفس اللوامة دوماً للصيانة والتربية، من خلال ترسيخ قواعد سلوكية في المجتمع، ومنظومة قيم تعززها وتحميها قوانين عادلة، وإنْفاذ لهذه القوانين من غير تمييز.

وأذكر ما قرأته في سنوات ربيع العمر عن الفيلسوف البريطاني برنراند راسل، ودراسته الفذة، التي نشرها في ستينات القرن الماضي، إثر اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي. وكانت الدراسة رسالة احتجاج وتساؤلات قلقة، ونصاً «ضميرياً» بامتياز، ونموذجاً رائعاً لموقف المثقف الفاعل تجاه ما يجري في الحياة العامة.

استخدم هذا الفيلسوف الفذ، فكره وقلمه، للدفاع عما يراه حقاً وعدلاً، وظل ضميره يقظاً ويصرخ بالتساؤل والقول: «إن ملايين من البشر، قد ضللوا بترهات وتواطؤ الصحافة، في جريمة اغتيال الرئيس»، مؤكداً أن جريمة الاغتيال هي سياسية أولاً وأخيراً.

ضمير الفيلسوف، حتى وعمره يقترب من عامه المئة، حرَّك صاحبه للبحث عن الحقيقة والشغف بها، ورأى أن من واجبه الأخلاقي مجابهة كل ظلم، وهو نفس الضمير الأخلاقي الذي دعاه لمهاجمة سياسة بلاده الخرقاء، أثناء مشاركتها مع فرنسا و«إسرائيل» في حرب عدوانية ضد مصر، في ما عرف بالعدوان الثلاثي في العام 1956، وأسس حينذاك هيئة حقوقية إنسانية رفيعة، حملت اسم «محكمة برتراند راسل» لمحاكمة أعداء السلام ومجرمي الحرب.

إن كل ما يحتاجه الظلم للوجود هو بقاء أصحاب الضمير الحي صامتين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"