«ڤرساي» بدون حمَّامات!

02:59 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. يوسف الحسن

ذات صيف جميل وبعيد، وقفت مندهشاً أمام قصر «ڤرساي» قرب باريس، بهرتني فخامة القصر، ومعماره وتفاصيل زخارفه، وتماثيله وجراره وأعمدته المدهشة. نعومة أرستقراطية، مطوقة بالفخامة والضخامة.
في القرن السابع عشر، وما تلاه، كانت أوروبا تتغير، واكتشف ملوكها قدرة الفن المعماري على التأثير الطاغي في مجتمعاتهم، وفي أذهان العامة، وتنافسوا مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في استعراض الجبروت والأُبّهة للسيطرة على عقول الناس، وإثارة الشوق إلى الرفاهية والدعة، لتكون أقوى بكثير من السعي وراء تحقيق حاجات الروح.
كان الملك الفرنسي لويس الرابع عشر أقوى ملوك أوروبا في القرن السابع عشر، وقد حرص على جعل قصر «ڤرساي»، الذي بني على مدى عشرين عاماً، بدءاً من منتصف القرن، ليكون رمزاً لعلو سلطته وهيبته، مثله مثل المئات من الكاتدرائيات والكنائس والقلاع.
وقد صاحب ذلك مساع حثيثة لتحويل مساحات شاسعة في ريف بلدان أوروبية إلى حدائق وجداول ونوافير وزخارف تتسم بلمسات جمالية مدهشة ومؤثرة ولا رتابة فيها.
أمضيت ساعات عديدة، وأنا أتجول في أرجاء القصر وشرفاته وحدائقه، وأذكر أنني انشغلت أثناء هذه الزيارة بسؤال عن أسباب خلو القصر من الحمَّامات، لكن جماليات القصر، طغت على هذا التساؤل، ورحت استحضر حال عامة الناس في تلك الأزمنة، وما الذي كان يدور في رأس فلاح بسيط فرنسي أو نمساوي أو ألماني، وهو ينتقل من مزرعته الفقيرة، لمشاهدة قصر «ڤرساي»، أو مشاهدة قصر «يوجين» في فيينا، والذي صممه المعماري النمساوي لامير (ساڤوي) المسمى (يوجين)، وشيده على تل، بحيث يبدو القصر، وكأنه يحلق في السماء، فوق حديقة واسعة ومدرجة، ونوافير وأشجار، ونوافذ مزخرفة، ومصابيح مضاءة.
ما الذي يدور في وعي الموظف الأوروبي البسيط الذي كان يسير في شوارع معتمة وموحلة، ثم يقف أمام هذه القصور المهيبة الساحرة، أو يعبر بوابات كنيسة، بأبراجها العالية ومعمارها المبهر الباذخ، مثل دير «مِينْك» في باڤاريا، والذي شُيِّد على قمة جبل صخري يطل على نهر الدانوب، كحصن منيع؟ وحينما زرت هذا الدير ذات مرة في نهاية الثمانينات، شعرت بالدهشة البالغة، منبهراً بجمال الزخارف والمنحوتات الجصية والخشبية الرشيقة، وبشرفة (الأوروغن) الممتزجة ألحانه بتراتيل جوقة المنشدين المتوارية، ووقفت مطولاً أتأمل منحوتات فنية ل«أولاد الحب»، وهم أطفال عازفي الكمان والناي، وتبدو كأنها تسبح فوق الغمام عند سقف الدير.
لا شك أنه عالم عجيب، في عمارته ونحته وتصويره وحدائقه وأثاثه ومنحوتاته. وفي اتساع قاعاته الرخامية والخشبية الفارهة، ترف وتبذير وأرستقراطية، وكأن هذا الفلاَّح البسيط قد أخذ يتذوق مقدماً مجد الفردوس في الآخرة وينبهر لعظمة قصر الأمير، ويذعن لرهبة الكنيسة.
في القرن الثامن عشر، وبدءاً من منتصفه، كانت حياة المتعة والرفاهية المترفة قد غدت صبغة شائعة في حياة الطبقة الأرستقراطية والحاكمة، وقام الملك لويس الخامس عشر بتشييد أجنحة صغيرة أنيقة، متحررة من التكلف، في قصر «ڤرساي» وبأثاث ذي أنماط بديعة جذابة ذات طابع أنثوي، وزخارف برونزية مذهبة. وقد أقام الملك في هذه الأجنحة، وعاش فيها على سجيته، بعيداً عن الأجنحة الضخمة الفارهة التي شيدَّها جَدُّه.
لكن سؤال غِياب الحمَّامات (النظافة الجسدية) في قصر «ڤرساي» ظل موضع الاستغراب، وعدت إلى عدد من المراجع والمصادر المختصة، واكتشفت أن الملك الشاب لويس الثالث عشر الذي ولد في مطلع القرن السابع عشر، لم يستحم حتى أصبح عمره سبعة أعوام، وأن إليزابيث الأولى في بريطانيا كانت تستحم مرة واحدة في الشهر، ويذكر أحد المنشورات الطبية التي طبعتها مؤسسات لاهوتية، أن «الاستحمام يفتح مسام جسم الإنسان، ويدخل سم الطاعون خلالها إلى الدم».
ويتحدث كتاب «ڤرساي لويس الرابع عشر» أن الملك كان يعتمد على خدم يقومون بفرك يديه ووجهه بالكحول. واشتهر ملك فرنسا هنري السادس بوخمه الشديد، وكانت تفوح منه رائحة العرق والإسطبلات.
ويبدو أن الاعتقاد بالاستحمام، والذي كانت روما واليونان تحتفيان به في حمامات ضخمة فاخرة، كان ينظر إليه بعين الريبة طوال أربعة قرون، باعتبار أن الماء ينقل المرض من خلال الجلد، وبالتالي يحب إبقاء مسام الجلد مسدودة بالأوساخ، لذلك كانت الطبقة الأرستقراطية الأوروبية في القرن السابع عشر، قليلاً ما يستحم أفرادها، وكانوا يرتدون قمصاناً من الكتان ليطيلوا أمد الأوساخ على الجلد، وكانوا يضعون زيوتاً ذات رائحة لحجب الرائحة الكريهة. ويروى أن صلاح الدين الأيوبي كان يطلب من المبعوثين الأوروبيين أن يستحموا قبل لقائه، أثناء الحرب الصليبية.
الهوس بالنظافة اليوم وسوق معقمات اليدين في أعلى مستوياته، من خوف الناس من انتشار الفيروسات، إلاَّ أنه من الطريف ذكره أنه حتى نهاية ستينات القرن الماضي، كان نصف النساء البريطانيات يستخدمن مزيل التعرق تحت الإبط.
قرن الكاتدرائيات والقصور العظيمة وقلاع البارونات والرسامين والنحاتين، هو القرن الذي فتح الأبواب أمام فنون عصر النهضة، وأزمنة التنوير، والثورة الصناعية، وغيرها من الإنجازات الحضارية والإنسانية.
وفي الوقت نفسه، هو القرن الذي أفرز فكراً سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً أوروبياً يعتمد التقسيم الحضاري المعيب، والموسوم بالمركزية، وتحول في القرون التالية إلى ممارسات «كولونيالية» هيمنة وسيطرة على شعوب وأمم وأراض بعيدة جغرافياً عن أوروبا.
تذكرت حقيقة أن الطهارة الجسمية لا تكفي، هناك أيضاً ضرورات تقتضي الطهر الروحي والذهني والسلوكي، قولاً وممارسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"