بأي حال عدت يا عيد؟!

03:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

سيأخذ العيد وقته ويذهب، وليته يستطيع أن يأخذ معه هذا الوباء الذي يفرق ولا يجمع، يباعد بين الناس ويفرض عليهم عدم القرب.

عدت وقد كتب علينا التباعد الاجتماعي. عدت وقد فرض علينا عدم التزاور إلا للضرورات التي تبيح المحظورات. عدت وقد قضيناك وكل منا مغلق أبواب بيته وأبواب حياته على نفسه وعلى أولاده. عدت وقد فرض علينا كورونا اللعين أن نعيش في غربة داخل أوطاننا وفي عزلة داخل منازلنا وفي وحدة داخل ذواتنا.

عدت يا عيد لنعيش أيامك بشكل لم نعتده من قبل، عدت إلينا حاملاً ملامح غير مسبوقة، عدت متجهماً عابساً خالياً من فرحة التجمع وحارماً صغارنا من فرحتهم البريئة بك وبالألعاب التي اعتادوا عليها في أيامك ولياليك، وحارماً إياهم من مصروف العيد الذي كان يجود به عليهم الجد أو العم أو الخال، بعد أن فرض «كوفيد- ١٩»عدم التلاقي.

عاد العيد إلينا وقد جعلنا جميعاً سواسية في الإحساس بالغربة، فمن يعيش مهاجراً فيما وراء البحار لا يختلف عمن يعيش في ذات المدينة أو القرية التي يقطنها أهله وناسه، وكل منهم متقوقع داخل ذاته وبين جدرانه.

سيأخذ العيد وقته ويذهب، وليته يستطيع أن يأخذ معه هذا الوباء الذي يفرق ولا يجمع، يباعد بين الناس ويفرض عليهم عدم القرب؛ ولكن لا، العيد يرحل وكورونا يبقى، لقد استوطن الكوكب، ولم يعد أمامنا من حل سوى التعايش معه، حسب قرارات أولي الأمر في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن استخدموا كل الوسائل والحيل للخلاص منه وفشلوا، وعم العجز بعد أن تساوت رؤى كبار العلماء مع صغار الباحثين ولم يعد من حل لتستمر الحياة سوى العودة للعمل ورفع القيود وإلغاء الطوارئ، حتى لا يتحول الإنسان إلى كائن عاجز عن توفير قوت يومه، وبالتالي يعجز القادة والحكومات عن قيادة الدول، ويختلط الحابل بالنابل ونعود بالكوكب إلى العصور البدائية.

لا حل أمامنا سوى أن نتعايش مع اللعين، الذي لم يكتف بالملايين الذين أصابهم ومئات الآلاف الذين حصد أرواحهم، ولا بالصراعات التي خلقها، ولا بالمستور الذي كشفه بعد أن فضح عجز الإنسان عن التصدي الحاسم والسريع لفيروس لا تراه العين المجردة ويستلزم تكبيره مئات المرات حتى يصبح مرئياً.

المهم هو كيف سنتعايش، وكيف يقي كل إنسان نفسه ويقي أهله وأحباءه وكل من يخالطهم من مخاطر كورونا ومخاطر الفيروسات الأخرى.

بدأت الدول تضع معايير للتعايش، ومجلس وزراء صحة دول مجلس التعاون الخليجي، اجتمع الأسبوع الماضي ووضع خارطة طريق ينبغي أن يلتزم بها الجميع، تمثلت في خمس نقاط أساسية كإرشادات للعودة إلى الحياة الطبيعية، تتعلق بالحياة اليومية والعملية والدراسة والسياحة ودور العبادة، مشدداً على ضرورة تحقيق التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة أينما كان الإنسان، مع اعتبار النظافة الشخصية نمطاً وأسلوب حياة، وقرارات مشابهة اتخذتها مصر لعودة الحياة في منتصف يونيو فارضة غرامات على غير الملتزمين، وهو نفس ما اتبعته العديد من دول العالم.

الحكومات درست الأوضاع وخططت ولم تجد أمامها من حل سوى التعايش وعودة عجلة الحياة لتدور من جديد، ووضعت معايير للوقاية، وبعد أن تحملت المسؤولية شبه كاملة خلال الفترة الماضية بفرض حظر وإغلاق وطوارئ وتعقيم ومراقبة، تضع اليوم الكرة في ملعب المواطن وتدعوه لأن يتحمل مسؤولية حماية حياته وحياة المحيطين به، والعودة للعمل وفق ضوابط تضمن التعايش مع الفيروس بأدنى الخسائر، وعلى كل إنسان أن يلتزم وينضبط ويكون أكثر حرصاً على الكمامة والتباعد وتخفيف الاختلاط وتحجيم الوشوشة وتقليل النميمة وكل ما يفرض التلاصق الموبوء والتقارب غير المحمود. وبإمكاننا أن نكون أكثر تشدداً من الحكومات ونخفف من التعاملات التقليدية مع النقد والمال والورق ونستبدل كل ذلك بمعاملات إلكترونية تضمن لنا أماناً أكبر وحماية أوسع.

نعم حياتنا اختلفت، وملامحها تغيرت، وأصبحت فضيلة الأمس رذيلة اليوم، وبعد أن كان التقارب هدفاً وطموحاً أصبح التباعد الضامن للوقاية، والتعامل عن بعد الذي كنا نرتقبه في المستقبل جاء إلينا مهرولاً، ليباغتنا ويفرض علينا أدواته باكراً. وأصبحت الكمامة كالحصن الذي يحمينا من مخاطر محيطة بنا، ولا نجاة لنا سوى بالالتزام التام، والانضباط التلقائي والذاتي هو عنوان المرحلة؛ بحيث نخرج من فكرة «القطيع» والحاجة إلى من يجبرنا على الالتزام، وانتظار عين الدولة متى تغفل عنا كي نعود للانفلات، لأجل غد بلا كورونا.

كل عام وأنتم بخير وأعاده الله علينا جميعاً وعلى الكوكب الذي يضمنا بلا أوبئة ولا كوارث.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"