جائحة «كورونا» ومستقبل الهجرة

03:48 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

الجائحة أبرزت أن العالم بحاجة ماسّة إلى إرساء منظومة متطورة للتدبير للأزمات والكوارث في ضوء المستجدات غير المسبوقة.

رغم الإشكالات الصّحية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.. التي أفرزها انتشار فيروس «كوفيد 19» على امتداد مناطق مختلفة من العالم، فقد سمح بإعادة النظر في عدد من المفاهيم التقليدية والصور النمطية بصدد عدد من الظواهر والقضايا الدولية.. فالسلم والأمن الدوليان كرهان استراتيجي الذي سعت إلى تحقيقه الأمم المتحدة منذ 1945، لم يعد مقترناً فقط بمواجهة التهديدات العسكرية، بل أصبح مرتبطاً أيضاً بمواجهة مجموعة من المخاطر العابرة للحدود في تجلياتها الاجتماعية والبيئية والرقمية.

كما أن مواجهة هذه التحديات التي تلقي بتداعياتها الخطرة على العالم برمته، وتهدد الإنسانية جمعاء، أصبحت تتطلّب اعتماد مقاربات جديدة، تجمع بين التدابير والجهود الداخلية، إلى جانب التنسيق والتضامن الدوليين.

فرضت الجائحة إعادة النظر في عدد من السياسات الداخلية، كما الدولية، وأبرزت أن العالم بحاجة ماسّة إلى إرساء منظومة متطورة للتدبير للأزمات والكوارث في ضوء هذه المستجدات غير المسبوقة، وإلى تطوير القطاع الصحّي على الصعيدين الوطني والدولي، مع الهشاشة التي كشفت عنها الجائحة في هذا الخصوص.

بالموازاة مع الأضرار الكارثية التي أفرزها الفيروس على المستوى الصحّي، من حيث عدد المصابين، والحالات الحرجة، والوفيات، كانت هناك أزمات فرعية أخرى تتناسل بشكل مخيف، سواء تعلق الأمر بالمشكلات النفسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، مع توجّه الدول إلى فرض حالة الطوارئ الصّحية، وما رافقها من شلل على مستوى حركة التنقّل الداخلي والخارجي، وكذا تدهور في المعاملات التجارية، والأوضاع الاقتصادية..

وفي خضم هذه التطوّرات، بدا أن هناك فئات اجتماعية كانت معاناتها مضاعفة، ويتعلق الأمر بذوي الاحتياجات الخاصة (ذوي الهمم)، والمسنين، والمهاجرين.

من جهة أخرى، أطلقت العديد من الهيئات المعنية بقضايا الهجرة وحقوق الإنسان، تحذيرات بشأن الانعكاسات الخطرة للجائحة على أوضاع المهاجرين، مع انشغال الدول المستقبلة بتدبير التداعيات الآنية لهذه الأخيرة، ذلك أن التدابير الاحترازية التي تمّ فرضها في هذا الخصوص، من قبيل فرض الحجر الصّحي، ومنع التّنقل، ووقف بعض النشاطات الاقتصادية والتجارية، لم تواكبها استجابة كافية للمستلزمات الضرورية للحياة، من غذاء وملبس ومسكن، وعناية نفسية وطبية.. بالنسبة لهذه الفئة الاجتماعية التي غالباً ما تعيش مشاكل عديدة حتّى في الأوقات العادية.. ومع إغلاق الحدود، ووقف الرّحلات الجوية، وجد الكثير من المهاجرين أنفسهم عالقين في المطارات، في أوضاع اجتماعية وصحية صعبة.

تؤكّد الكثير من التقارير الحقوقية والإعلامية أن تمدّد الوباء، وما تمخّض عن ذلك من فرض لإغلاق الحدود، ومنع للتنقل حتى بين أقاليم الدولة نفسها، أسهم بشكل ملحوظ في تراجع حدّة الهجرة السّرية في عدد من الدول المصدرة، أو تلك المعنية بالعبور، وهو ما أوردته المعطيات الإحصائية الواردة بشأن أوضاع الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسّط..

فقد أعلنت بعض دول الضفة الشمالية للمتوسط، أن شواطئها شهدت وصول بعض المهاجرين السّريين رغم التدابير الاستثنائية التي تم فرضها مع تمدّد الوباء، إلا أن التقارير الواردة من الاتحاد الأوروبي أو من بعض المنظمات المختصة، قلّلت من الأمر، واعتبرت أن الظاهرة تراجعت في ظلّ هذه الأوضاع بنسبة تجاوزت ال90 بالمائة.

ومن جهة أخرى، ونتيجة للأوضاع الاقتصادية الاستثنائية التي تمرّ بها الكثير من الدول المحتضنة للمهاجرين، قلّت بشكل كبير تحويلاتهم نحو بلدانهم الأصلية، ما أفقد هذه الأخيرة مصدراً مهماً من الموارد.

وبغض النظر عن هذه المعاناة والإشكالات، أتاحت الجائحة فرصة لتصحيح الصورة النمطية الرائجة عن الهجرة والمهاجر في الغرب، بخاصة تلك التي رسّختها الخطابات اليمينية في العقود الأخيرة والتي ظلت تربط الظاهرة بالتطرف والإرهاب والعنف.. بعدما تبيّن مع الجائحة، أن عدداً من المهاجرين من أصول إفريقية، وعربية، وإسلامية، تجنّدوا ضمن الصّفوف الأمامية لمواجهة الفيروس في المستشفيات، وداخل المختبرات العلمية في عدد من البلدان الغربية، التي تضرّرت بشكل كبير من الجائحة كالولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا.

وعلاوة عن المعاناة الإنسانية الراهنة التي يتكبّدها الكثير من المهاجرين على امتداد مناطق مختلفة من العالم تحت ضغط الوباء، يترقب الكثير من الخبراء والباحثين، مستقبلاً قاتماً للظاهرة، قد يمتدّ لفترة طويلة، بسبب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي سيخلّفها فيروس كوفيد 19 عبر العالم.. فحالة الحجر الصّحي التي تشهدها الكثير من بلدان الاستقبال، ستتمخّض عنها صعوبات اقتصادية بالنسبة لكثير من الشركات، قد تصل إلى حدّ الإفلاس، ما سيؤدي إلى تراجع كبير في استقبال المهاجرين، بل وإلى تسريح العاملين من حاملي التأشيرات المؤقتة.

ويذهب البعض إلى حدّ التّكهن باستثمار بعض الدول حالة الإغلاق المؤقت للحدود الراهنة بفعل الجائحة، إلى إجراء دائم في وجه المهاجرين، مع انتعاش الأصوات اليمينية داخل المشهد الأوروبي والأمريكي.. فيما ستزداد الإشكالات الإنسانية التي ستواجه المهاجرين وطالبي الّلجوء، مع فرض تعليمات السلامة الصحية التي ستحدّ بشكل كبير من هامش تحرّكهم، وحتى من التمتّع ببعض الحقوق المكفولة لهم، تحت ضغط الجائحة.. وهو ما سينعش الهجرة السّرية من جديد، كسبيل للهروب من الأوضاع الاجتماعية التي ستزداد سوءاً في عدد من دول الجنوب..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"