إعادة اختراع الحكومة

01:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العظيم محمود حنفي *

الأزمة المالية العالمية عام 2008 كانت لها مصائب كبرى في الدول الرأسمالية الكبرى وامتدت إلى بقية العالم، لكنها أدت إلى إعادة الاعتبار لسلطة الحكومة، وهو ما تأكد في جائحة كورونا المستجد- كوفيد 19، وهي الجائحة الأشد تأثيراً خلال قرن كامل، والتي سببت أزمتين صحية واقتصادية. وأدت إلى عودة مفهوم الدولة الوطنية، فهي التي تقوم بفتح وغلق الحدود وتطبيق سياسات العزل الاجتماعي والحجر الصحي وتستخدم التكنولوجيا إلى حد كبير في السيطرة على المجتمع وعلى الأفراد، فأزمة الفيروس التاجي فرضت الاحتياج لما يمكن أن يسمى «إعادة اختراع الحكومة» حيث أظهرت الأزمة الحاجة لتحديث المؤسسات الحكومية والبيروقراطية التي تقدم الخدمات للمواطنين، وذلك لأنه في حالة الطوارئ تزداد الحاجة لتوسيع دور الحكومة لتقوم بهذا الدور بقوة لأن هناك مشاكل لا يمكن حلها بواسطة قوى السوق أو الكيانات الخاصة. عادت الحكومة فائقة القوة في مواجهة عدو غير مرئي لا يرحم إلى الظهور للدفاع عن الصحة العامة والاقتصاد، وأضحى توسع دور الحكومة جزءاً من اتجاه عالمي نتج عن جائحة الفيروس التاجي. التي بينت بجلاء أن القائد السياسي يحتاج إلى مؤسسات حكومية كفؤة لعبور الأزمات أو عبور وادي الموت الوبائي بنجاح.

ترى معظم التحليلات أن تلك الأزمة ستترتب عليها حقبة جديدة لحكومة أكبر حجماً وأكثر تدخلاً في الاقتصاد، لأن الحجم الهائل للإنفاق الحكومي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي والتراكم المتزايد للدين القومي والعالمي يؤكدان تراجع حرية السوق والسياسة المالية المحافظة التي تقلص دور الدولة في الاقتصاد. وترى مراكز دراسات اقتصادية أن تضخيم دور الدولة في الاقتصاد ستترتب عليه آثار عظيمة من أهمها ارتفاع معدل الضرائب والضغط على الأثرياء «ضريبياً»وضغط الرأي العام من أجل المزيد من التدقيق والشفافية وخفض النفقات العامة. وأن كوفيد 19 قد يؤثر في الكيفية التي ينظر بها المواطنون للدولة، خصوصاً أنها هبت إلى نجدتهم في مناسبتين خلال ما يزيد قليلا على عقد من الزمان. ما ترتب عليه قبولا عاما بحجم أكبر للحكومات وتدخلا أوسع نطاقا من جانبها في الاقتصاد واستعداداً لتجريب الأدوات التي تديرها الدولة، خصوصا وسط الأجيال الأكثر شباباً والتي ليست لها ذكريات فعلية عن حقبة ما قبل 2008. ويستشهدون بفترة انهيار سوق الأسهم الشهير عام 1929 الذي كان مؤشراً على فشل الأسواق ( في إدارة الاقتصاد) ما مهد الطريق لتضخيم دور الدولة الاقتصادي والذي قاد حينها إلى سياسة «النيو ديل» في الولايات المتحدة الأمريكية وظهور دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا. فقد اتسع حجم الحكومة بسرعة في البلدان الصناعية وكان هذا التوسع يرجع أساساً إلى النفقات التي ترتبط عادة بدولة الرفاهية.

لكن في سبعينات القرن العشرين توالت الانتقادات الموجهة للحكومة الكبيرة لعجزها عن حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العويصة، ومهد ذلك العجز بدوره لعودة الأسواق عبر السياسات «الريجانية» و«التاتشرية»، وهناك قول مأثور لرونالد ريجان قديس الحزب الجمهوري في العصر الحديث، «إن الحكومة هي المشكلة وليست الحل»، وهي المقولة التي جسدت العداء المناهض للحكومة الذي ميز تيار اليمين الأمريكي الذي استند على تقاليد فكرية مثل عقيدة إدموند بارك وجوهرها شك عميق في سلطة الدولة. ما جعل اليمين الأمريكي يبدي عداء تجاه الدولة أكثر من أي حزب محافظ آخر. وهناك من المحافظين الأوروبيين من كان يضع ملصقا يقول «أحب بلادي ولكنى أكره حكومتي» وكم منهم يمكن أن يقول «نحن بحاجة لتقليص الحكومة بحيث يمكن إغراقها في حوض صغير». ومنطقهم أن التوسع الحكومي كان لازما في أعقاب أزمة عام 1929 وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية لكنه قاد في النهاية إلى إخفاقات كبيرة في الأداء. لذا على القيادة السياسية معرفة متى وكيف ينبغي تقليص دور الدولة ؟.

كانت السهام تتوالى على الحكومة الكبيرة، ومحورها أن ما يعوق أداء الحكومات هو وجود بيروقراطية متضخمة وفاسدة، ولذا تم إلغاء عشرات الوكالات الحكومية وإدماجها في وزارات أخرى. وتقليص عدد الوزارات وتخفيض أعداد العاملين. كما حدث في المملكة المتحدة التي كان عدد العاملين في القطاع العام فيها قد وصل للذروة، حيث بلغ 6.44 مليون موظف خلال خريف 2009 ثم أخذ يتقلص تدريجيا حتى نهاية عام 2019 إلى مليون شخص تقريبا. ولكن التخفيض طال الموظفين والمخصصات المالية في وزارات مهمة مثل الصحة ما أدى إلى سوء أدائها في مواجهة جائحة كوفيد -19.

* باحث أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"