حلم لم ولن يتحقق

02:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

أمريكا ليست أفضل من غيرها من دول العالم الثالث، وهي كغيرها يرهبها التظاهر والغضب الشعبي.

من قال إن قرار الرئيس الأمريكي السادس عشر إبراهام لينكولن (١٨٦١-١٨٦٥) نجح في تحرير العبيد فهو كاذب، ومن قال إن المعركة التي خاضتها روزا باركس لأجل حقها في مقعد بسيارة النقل العام وما تبعها من حكم أصدرته أعلى هيئة قضائية في أمريكا بمنح السود هذا الحق فهو واهم. ومن قال إن مارتن لوثر كينج نجح في تحقيق حلمه بعد أن وهب حياته للكفاح السلمي لإسقاط العنصرية فهو غافل عن الحقيقة.

الحقيقة التي تؤكدها الأحداث والحوادث والتصريحات والملاسنات السياسية هي أن الولايات المتحدة ما زالت غارقة في العنصرية، وأنه ما زال هناك سادة وعبيد، على الرغم من قرار لينكولن وكفاح مارتن وقضية روزا، الذين أصبحوا تراباً تحت التراب ونتيجة ما فعلوه ليس سوى غبار في فضاء السياسة الأمريكية، وسيظل أحفادهم يعيشون نفس المعاناة ويدفعون ذات الثمن، وهؤلاء السابقون لم ولن يكونوا سوى ذكرى طيبة لحلم لم ولن يتحقق.

نعم، الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ لينكولن وقراره، اتخذت الكثير من القرارات التي تؤكد أن المجتمع الأمريكي مجتمع مساواة، لكنها مجرد حبر على ورق، أما الواقع فهو مختلف أو بتعبير أكثر دقة متناقض، فالكثير من الجرائم العنصرية التي تصل إلى حد القتل ترتكب، ويعقبها غضب أسود، واحتجاجات ملونة ضد العنصرية، وهو ما يفرض تقديم الجاني الأبيض للمحاكمة، ليأتي الحكم برداً وسلاماً على أصحاب البشرة البيضاء، وناراً وجحيماً صامتاً على أصحاب البشرة السوداء.

ما زال يسكن المواطن الأمريكي الأبيض، إحساس العظمة وعقيدة التفوق، ومن منطلقهما يتعامل مع الأسود على أنه عبد وفي أفضل الأحوال مواطن درجة ثالثة «دنيء المكانة وقبيح الهيئة».

ما حدث في مينيابوليس بولاية مينيسوتا للأربعيني الأسود جورج فلويد، وأدى إلى وفاته تحت قدمي الضابط الأبيض ديريك تشوفين (اسم على مسمى فهو شوفيني السلوك والعقيدة) وهو يصرخ مستنجداً بقاتله «أريد

أن أتنفس» ليس أول حادث عنصري ولن يكون الأخير، طالما أن عقيدة التفوق والتفرد تسيطر على عقل ووجدان الأبيض، وتدعمها تصريحات ساسة وزعماء وعلى رأسهم سيد البيت الأبيض.

المؤلم أن جورج فلويد الذي كان يعمل رجل أمن خاص، كان يعاني البطالة بعد أن خسر وظيفته بسبب انتشار وباء كورونا الذي أفقد ٤٠ مليون أمريكي وظائفهم، معظمهم من السود، ليكون جورج ومن شابهه ضحايا الوباء والعنصرية معاً.

على صهوة جواد العنصرية جاء الرئيس دونالد ترامب، ليخلف باراك أوباما أول رئيس أسود في التاريخ الأمريكي، الذي توهمنا بمجرد انتخابه أنه سيكون المفتاح الذي

ستغلق به أمريكا باب العنصرية إلى غير رجعة، لنفاجأ بجرائم تمييز عنصري ترتكب على الأرض الأمريكية وهو جالس في البيت الأبيض من دون أن يحرك ذلك ساكناً في نظام الحكم العتيق الذي يسوس القوة الأولى في العالم.

جاء ترامب رافعاً الشعار العنصري «أمريكا أولاً» ومتبعاً النهج السياسي الذي يكرس هذا الشعار، وبلغة عنصرية يصدر قراراته ويهاجم دولاً وعرقيات ويقاطع منظمات دولية ويخلخل النظام العالمي الذي بناه وروج له الأمريكان، وبأسلوب استعراضي مستفز وقع قراراته العنصرية المنحازة ل«إسرائيل» ربيبة أمريكا والعالم في التمييز، وبخطاب عنصري هاجم العرب واللاتينيين والمهاجرين وسعى لعزل «سيدة العالم» بجدران أسمنتية وحوائط سد سياسية وقرارات صادمة للحلفاء قبل الأعداء.

لا يخفى على ترامب ولا على مرتكبي جرائم العنصرية، أن أصولهم ليست أمريكية وأن دولتهم جمعت رعاياها من أربع جهات الأرض لتفاخر بنفسها على أنها مجتمع تعددي متنوع استطاع أن يصهر مواطنيه في بوتقة واحدة، وأنهم على اختلاف مشاربهم وألوانهم وعرقياتهم ودياناتهم يلتقون على حب أمريكا.

الوطن الأمريكي كان حلماً لكل حر في العالم، على الرغم من أنه قام على العنصرية، وتباهى بتمثال الحرية وهو الذي يناهض كل ما يخالف حرية الأبيض، ويدعي أنه حامي القيم الإنسانية وهو الذي لا يعرف قيماً سوى قيمة تسيده العالم، وتحكمه فيه، وتدخله في شؤون ليس الضعفاء فقط، لكن أيضاً الأقوياء الذين ينازعونه على موقع السيادة ويهددون مكانته القيادية.

أمريكا ليست أفضل من غيرها من دول العالم الثالث، وهي كغيرها يرهبها التظاهر والغضب الشعبي، ويكفي أن سيدها لجأ إلى القبو المحصن خوفاً من الغضب الأسود، وهي بقوة السلاح وبالقبضة الحديدية ترهب شعبها وتسيطر على العالم، ولم تعد حلماً بعد أن حولت الحلم إلى كابوس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"