سلامة ورويه الطنيجي.. سيرة ملهمة تتوارثها الأجيال

03:00 صباحا
قراءة 4 دقائق
خليفة بن حامد

تترك بعض الشخصيات الملهمة، آثاراً تعد علامة فارقة في تاريخنا وتراثنا وتصبح مع مرور الزمن مضرباً للأمثال تتوارثه الأجيال.
وهناك شخصيات نسائية، دونت ذاكرة الإنسان عنها سيرة خالده منذ القدم، وعلى امتداد التاريخ كان لها دور بارز في عملية بناء و تنمية المجتمع.
من هنا يشكل ثنائي سلامة ورويه الطنيجي، رحمهما الله، ليس فقط كشقيقتين؛ بل جزء من ملامح تاريخ وتراث البادية عبر قرن من الزمن.
الشقيقتان ولدتا في العقد الثاني من القرن العشرين في بيئة بادية المنطقة الوسطى من إمارة الشارقة لأسرة تتكون من ثلاثة إخوة وثلاث أخوات، كان الحل و الترحال السمة الغالبة لهم ولباقي بدو المنطقة من سهيلة إلى سيح الغريف مروراً بواحة نخيل الذيد صيفاً و شتاء. وكان جزء من يوميات النساء ورود مياه «الطوى» كل يوم تقريباً لتزويد البيت بالماء للشرب والطبخ وفي طريق عودتهن كن يحملن الحطب لإشعال النار، بينما قطيع غزلان الظبي يراقبهن بانتظار أن ينتهين من سقاية «الحلال» وملء «السعن» لكي يأخذ دوره إلى «اليابيه» لشرب الماء.
وكانت النسوة، تستعدن للعرس عبر عمل «العجفة» ووضع «الياس» على الشعر والحناء تصبغ الكفوف أو الروابي، ويرتدين من اللبس الثوب الميزع وبعض الحلي لمن لديهن استطاعة مثل: «الغواشي» و«القرداله»، احتفالاً بهذه المناسبة السعيدة.
وكانت هناك صعوبة في التنقل إلى مكان العرس إما سيراً على الأقدام أو على الرواحل التي تركب النساء على ظهورها، بينما يقوم الرجال بقيادة الركب حتى الوصل إلى الهدف المقصود، والنزول لدى أهل العروس للاحتفال معهم بهذه المناسبة. وبطبيعة الحال تستغرق الرحلة ساعات مع الأخذ في الاعتبار المرور على الفرجان الأخرى وموارد المياه، عندما يصل الركب يُستقبل بالأهازيج الشعبية وتقدم له الفوالة وتدخل النساء على العروس، لكي تستعرض المطرح أهم جزء في «زهبة» العروس؛ حيث كانت توضع كل الزهبة به من ملابس وزينة وحلي.
يوميات عندما تستمع إليها بأدق تفاصيلها يذهب بك خيالك إلى ذلك الزمان تنصت لحداء إبل القوافل التي تعبر الفيافي، وللحن سحب الرشا وصوت الفرغ وحركات البهائم.
هي لحظات من الزمن لن تعود، لكن سجلتها حكايات ومرويات الجدتين سلامة ورويه الطنيجي لزمان أقل ما يقال عنه الزمن الجميل؛ حيث كانت مقومات الحياة على هذه الأرض الطيبة شحيحة، لكنها كانت ومازالت سعيدة.
تروي سلامة بنت خليفة الطنيجي، أنه في أحد أيام الشتاء مع عواء الذئاب التي كانت منتشرة في بادية الذيد، والإمارات عامة، في حقبة الخمسينات وما قبلها، استيقظت على استغاثة أحد رعاة الإبل الذي دلف إلى خيمتهم يبحث عن مأمن من هجمات الذئاب، أشارت إليه أن يستريح في بيت الشعر بالقرب من النار وأيقظت أسرتها للترحيب به والمبيت عندهم وتقديم الطعام. وفي الصباح حكى لهم أن الذئاب هجمت على الناقة والحوار حديث الولادة وعندما رأى ذلك فر هائماً على وجهه في عتمة الليل يتقي شرها حتى وصل خيمتهم.
كانت الحاجة سلامة، تفد إليها الأفواج طلباً للمشورة؛ حيث كانت، رحمها الله، معروفة بالحكمة وبعد النظر في قضايا الحياة اليومية، فعندما تشتد الأمور لابد من زيارة مجلسها؛ حيث يحضر الرأي الرشيد. وكانت شقيقتها رويه، رحمها الله، عندما يجن الليل يجتمع إليها أبناؤها وكذلك من هم بجوارهم من الأسر، وتكون النار وسطهم، فيعكس ضوؤها كل الأنظار شاخصة نحوها بانتظار حكاية اليوم.
كانت تسرد كل ليلة لأولئك الشبان والفتيات قصصاً حفظتها من مرويات جدتها من القرن التاسع عشر عن الأسفار وقصصاً تحمل العبر والشجاعة والكرم ونبذ الأخلاق المذمومة في مجتمعها.
أتقنت رويه بنت خليفة، حرفاً عدة كان من أهمها السدو والذي اقترن بالمغزل وهو لا يفارق يدها. وكانت صناعة السدو، تعتمد قديماً على وبر الجمال وصوف الغنم؛ حيث يعد السدو حجر الزاوية الذي يعتمد عليه البدو في صناعة بيوت الشعر، المقر الشتوي لهم، وصناعات تراثية كالخطم والخري وشمال الإبل.
وكانت رويه، تجلس في وسط بيتها؛ حيث تشد الخيوط على النول وتتسابق فتيات الفريج لمد يد العون لإتمام أجزاء بيت الشعر في عملية تستغرق أسابيع من العمل اليومي. وقد نالت رويه التكريم من دائرة الثقافة بالشارقة في الدورة الثامنة من «يوم الراوي» 2008 وكانت مرجعاً للأحداث بالمنطقة والمرويات التاريخية والتراثية.
رحلت سلامه و رويه، وبقيت حكايات ذلك الزمن عن يومياتهما وزمانهما تحكى فتخشع القلوب وتدمع العيون. شقيقتان سجلت رمال بادية الذيد وما جاورها قصة من الصداقة والأخوة بينهما، سيدتان وقورتان حملت ذاكرتهما تراث وتاريخ المنطقة ورحلتا في ذات الشهر. بهذا الرحيل فقدنا الحكمة و الرواية الشفاهية للعنصر النسائي ودوره في الحرف اليدوية التي أتقنها عبر قرن من الزمان.
تجاورتا في الحياة بالمسكن وحتى في القبر بعد حياة مديدة بالعمل الصالح والخير، فعندما نالتا قطعة أرض سكنية من الحكومة تبرعتا بهما لتكون بيتاً لله.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"