«فلويد».. صدمة جديدة لأوروبا

03:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود *

لم تفق أوروبا من صدمات كورونا، لتجد نفسها أمام موجات من المظاهرات منددة بموت جورج فلويد الذي راح ضحية عنف ضابط شرطة أمريكي. آلاف الأوروبيين خرجوا ليس فقط دعماً لفلويد، بل ضد العنصرية وعنف الشرطة في أوروبا أيضاً، رافعين شعارات «حياة سوداء» و«لا عدالة ولا سلام».
البداية من باريس، تلك العاصمة التي لا تهدأ من المظاهرات في الآونة الأخيرة. فمع مقتل فلويد تجددت ذكرى ضحايا العنصرية في فرنسا، حيث نظمت عائلات الضحايا المتضررين من عنف الشرطة احتجاجاً وتنديدا بمقتل «أداما تراوري»، ذلك الشاب ذو البشرة السمراء الذي ألقي القبض عليه في بومونت، وهو يحاول الفرار من الشرطة في 2016. ثم توفي جراء الاختناق أثناء الاعتقال.
سبقت تلك الحادثة أعمال شغب جرت في ضواحي باريس عام 2005، عقب صعق صبية في محطة للكهرباء على خلفية اختبائهم من الشرطة. من باريس إلى لندن بحسب تحقيق أجرته الحكومة البريطانية في وفيات كورونا، تبين أن الأفراد من أصول إفريقية وآسيوية أكثر عرضة للموت من البيض من البريطانيين بنسبة 50%. أما عن هولندا، فمنذ سنوات يقام احتفال عنصري بمناسبة الاحتفال بعيد القديس نيكولاس، الذي يلون فيه الأطفال وجهوهم بالسواد، تزامناً مع مظاهرات مكافحة العنصرية في أوروبا، خرجت مثلها في المدن الهولندية لوقف الاحتفال بعيد القديس نيكولاس على النحو العنصري. الأمثلة عديدة حول الحوادث العنصرية في أوروبا التي غالباً ما ترفض الحكومات الأوروبية توثقيها.


تساؤلات وتحركات


يلخص المشهد المزدوج في أوروبا التي تندد بمقتل فلويد، رئيس جمعية «العدالة والحريات للجميع» بفرنسا «ياسر لواتي» قائلاً: «يمكنهم إدانة العنصرية، من أصحاب التفوق الأبيض في الولايات المتحدة، لكنهم لن يقولوا كلمة واحدة عنها هنا»، قاصداً صمت الأوروبيين عن العنصرية في بلادهم. تصريح لواتي يكشف جانباً مهماً في أسباب الدعم الأوروبي للمظاهرات الأمريكية، وهو التغطية عما يجرى في بلادهم.
رخايا ديالو الصحفية الفرنسية والناشطة السياسية، توضح أيضاً ازدواجية المتظاهرين أيضاً والنشطاء قائلة: «لم أرَ قط الكثير من الأشخاص يتظاهرون ضد وحشية الشرطة، اعتدت على رؤية نفس النشطاء في الغالب، لكن هذه المرة رأيت أشخاصاً لم يسيروا من قبل». رواية ديالو كشفت عن تساؤلات عديدة، منها: هل النشطاء الآن يدعمون فلويد فقط أما تراوري وأمثاله فلا؟ أم أن العبرة في وجود ترامب كرئيس اتهم كثيراً بالعنصرية، وما يحدث في أوروبا الآن هو هجوم على ترامب، وليس دعماً للسود في الغرب؟ تلك الأسئلة تطرح أيضاً رؤية الغرب حول ترامب والديمقراطية، وليس فقط أزمة العرقية والعنصرية ضد اللون والدين وما شابه ذلك.
يظهر ذلك من التصريحات الأوروبية حول الحادثة، ففي حين ينفي نائب رئيس المفوضية الأوروبية «مارغاريتيس شيناس» وجود عنصرية أو مشاكل تتعلق بوحشية الشرطة، موضحاً نوعية المشاكل لديهم: «لا أعتقد أن لدينا مشكلات الآن في أوروبا تتعلق بشكل صارخ بوحشية الشرطة، أو قضايا تجاوز العرق في أنظمتنا، لكن لدينا مشكلة في أوروبا وهي قضية عدم المساواة وتوزيع الدخل».
شيناس تغافل عن أزمات عرقية كثيرة تحدث في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتقريباً في معظم دول أوروبا، ويمكن فهم ذلك كمقارنة للأوضاع بين أوروبا وأمريكا، على اعتبار أن الأولى ليست فيها ممارسات عنصرية، والثانية في عهد ترامب تحديداً تعج بالعنصرية، في إشارة منه لمسؤولية ترامب عن ذلك.
فيما تقدم الناشطة الحقوقية «سهام أصباغ» رؤية مغايرة، لحالة التغير في موقف الشباب تجاه العنصرية على سبيل المثال، واصفة إياهم بدرايتهم الحالية بقضايا العنصرية، قائلة: «الكثير من الشباب يقولون: لقد سئمنا من وحشية الشرطة والعنصرية، ولن نلتزم الصمت بعد الآن»، ما روته أصباغ يمثل جزءاً من المشهد الاحتجاجي في أوروبا، ولا سيما في قطاع وتركيبة عمرية محددة وليست كل الفئات.


الإرث الاستعماري والشعبوية


في المقابل وعلى الرغم من دعوات الحكومات الأوروبية لمحاربة العنصرية، والمقارنة بين وضع السود في أوروبا وأمريكا، والذي يحاول الإعلام الأوروبي ترجيح كفته لمصلحة الأوروبيين. لكن الأمثلة في الواقع والتاريخ تقر بتشابك وتشابه العنصرية في أوروبا وأمريكا على حد سواء. من هنا لا بد أن يثار في بعض الكتابات الغربية الحديث عن الإرث الاستعماري لأوروبا في إفريقيا، ففي الوقت الذي كانت الحروب بين البيض والسود في أمريكا، كان الأوروبيون في إفريقيا والشرق الأوسط يمتلكون الأرض بمن عليها. من هنا يبرز فريق من المتظاهرين، وكأنه يشعر بالذنب حيال سود أمريكا، وليس فقط التضامن معهم.
هذه المظاهرات الاحتجاجية بدت كأنها أيضاً لنبذ الشعوبية، هؤلاء الذين يعادون كل ما هو مخالف لثقافتهم من العرب والسود والأديان الأخرى. فالرابط بين التضامن مع فلويد ومناهضة الشعبوية، هو ذاته محاولة التخلص من الإرث الاستعماري، ورسم صورة أوروبا المتسامحة النادمة على ماضيها. فكراهية الأجانب، وقتلهم ليسا إلا جزءاً من تاريخ طويل من الممارسات العنيفة والدموية للاستعماري الأوروبي في العالم الثالث. وليس أدل على ذلك من كتابات المفكر الفرنسي «ألكسيس دي توكفيل» في القرن التاسع عشر حول النظرة للإفريقي، قائلاً «لم يأتِ أي إفريقي بحرية إلى شواطئ العالم الجديد»، مضيفاً: «يمكن للشريعة أن تلغي العبودية، لكن الله وحده يمكنه أن يمحو آثارها». هذا الحديث عن الإفريقي منذ ما يزيد على قرن، لكن آثاره ثابتة في جينات الشعبوية الأوروبية. فكثيراً ما تحدثت الصحف الغربية عن العنصرية في الملاعب الأوروبية ضد اللاعب الإفريقي الأصل والمجنس بالإيطالية، بالوتيللي، الذي لاقى استهجاناً وشتائم كثيرة، وغيره الكثير من الأفارقة الذين يحملون الجنسيات الأوروبية.
ولعل أفضل ترجمة لوصف علاقة أوروبا بسود أمريكا، ما نشر في مقال «الجارديان» البريطانية بعنوان: «ماذا يعني سود أمريكا لأوروبا؟» بحالة فقدان الذاكرة الانتقائي. فالذاكرة الأوروبية تحذف طوال الوقت إرثهم الإمبراطوري والشعور بتفوق الجنس الأبيض على الآخرين، وتنسى عنصريتها مع السود داخل القارة العجوز.
فنفس المواطنين الأوروبيين الذين خرجوا للتنديد بمقتل فلويد هم الذين يفتخرون بماضيهم الاستعماري، ففي الوقت الذي تنتشر فيه كورونا أجرت «مؤسسة يوجوف» استطلاع رأي أكد أن واحداً من كل اثنين من الهولنديين، وواحداً من كل ثلاثة بريطانيين، وواحداً من كل أربعة من الفرنسيين والبلجيكيين، وواحداً من كل خمسة إيطاليين يعتقدون أن الإمبراطورية السابقة لبلادهم شيء يدعو إلى الفخر. من هنا يمكن القول: إن المظاهرات الأوروبية لم تكن كلها خالصة لدعم فلويد، ولا كل المتظاهرين خرجوا لمحاربة العنصرية.

* كاتب (مصر)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"