قوة أمريكا المهدورة

03:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق


انتهى العصر الذي كان بمقدور واشنطن خلاله فرض إرادتها على العالم كما ظلت تفعل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

محنة الولايات المتحدة وخسائرها تتجاوز بكثير مظاهر وعواقب الأزمات الثلاث التي تعتصرها حالياً وهي جائحة كورونا، ثم الأزمة الاقتصادية الخانقة الناتجة عنها، وأخيراً الاضطرابات الشعبية المندلعة رفضاً للعنصرية. الوجه المظلم لتلك الدراما لا يجسده النزيف البشري والمادي فحسب؛ بل أيضاً ما كشفته من واقع سياسي واجتماعي مرير تتوارى عيوبه وندوبه خلف أضواء وصخب الحياة الأمريكية البراقة والهادرة.

كورونا أظهر قصور النظام الصحي بقدر ما فضح ضحالة رؤية القيادة السياسية وسوء تقديرها لحجم وخطورة المرض في مراحله الأولى. الأزمة الاقتصادية جددت الحديث عن هشاشة الوضع الاقتصادي، وسوء الإدارة وعدم فاعلية السياسيات. فيما أعادت الانتفاضة الشعبية تذكير الجميع بأن العنصرية ما زالت مرضاً مزمناً لم يبرأ منه المجتمع.

تكشف الاحتجاجات الواسعة بما رافقها من عنف وسلب ونهب عن أمراض خبيثة أخرى يعانيها المجتمع الأمريكي مثل الإحساس بعدم المساواة، والشعور بالإحباط لدى قطاعات واسعة، خاصة الشباب الذي لم يجد اهتماماً كافياً من النخبة السياسية لتفهم دوافعه وحل مشاكله. وهكذا تحول الملايين إلى قنبلة موقوتة انفجرت مع خروج آخر أنفاس الشاب الأسود جورج فلويد الذي قتله الضابط الأبيض العنصري.

قائمة العلل طويلة وتشمل أيضاً العنف المجتمعي الذي يغذيه انتشار الأسلحة وتفشي المخدرات، بينما تتفاقم حدة الانقسام السياسي والخلل الفادح والفاضح في توزيع الثروة بما يعكسه، ويؤدي إليه في الوقت ذاته، من تهميش لقطاعات كبيرة من المجتمع وحرمانها من فرص عادلة في التوظيف والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية. وهناك أزمة مزمنة في الإدارة المالية سبق أن كبدت أمريكا والعالم خسائر هائلة في 2008.

يعاني المجتمع كذلك تدهور مستوى الخدمات العامة والبنية التحتية. وكانت تلك واحدة من أهم بنود البرنامج الانتخابي للرئيس دونالد ترامب الذي يرى خصومه أنه شخصياً أحد أهم مشاكل البلاد بما تسببه تصريحاته ومواقفه من تعميق للانقسام بدلاً من تضميد الجراح.

لا يمكن تجاهل التأثير السلبي لتلك الأزمات على صورة الولايات المتحدة في العالم وكفاءة وفاعلية سياستها الخارجية بما يسهم في تعزيز نفوذها وحماية مصالحها الحيوية. يزداد الأمر صعوبة في ظل سياسة الانكماش للداخل التي يتبعها ترامب وعزوفه عن التدخل في أزمات العالم. والنتيجة مزيد من الأزمات مع تآكل ثقة الحلفاء وتمدد الأعداء، وبالتالي خسارة أمريكية مزدوجة.

وللمحلل الأمريكي البارز ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة بحثية مرموقة، توصيف دقيق لمعنى القوة يعتمد على التفريق بين ما يسميه بالقوة المطلقة والقوة المتاحة؛ الأولى هي مجموع الإمكانيات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية التي تملكها الدولة. وبهذا المعنى تظل أمريكا القوة العظمى الوحيدة بلا منازع.

أما القوة المتاحة فهي القدرة على استخدام الأدوات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية الموجودة، وتوفر الإرادة والاستعداد للقيام بذلك. هنا تثار الشكوك حول القوة الحقيقية لأمريكا التي تفقد يوماً بعد يوم قدرتها على التأثير في الأحداث إما بسبب توجهاتها الانعزالية المتزايدة، أو نتيجة لأزماتها الداخلية التي تستنزف قواها.

انتهى العصر الذي كان بمقدور واشنطن خلاله فرض إرادتها على العالم كما ظلت تفعل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يعد هذا ممكناً وهي تنوء تحت وطأة الانقسام السياسي والمجتمعي والعنصرية والعنف ويهيم في شوارعها أكثر من 40 مليون عاطل أفرزتهم الأزمة الأخيرة. كل ذلك في ظل الافتقار للرؤية وعدم وضوح الأهداف.

لا يوجد في واشنطن حتى الآن من يستمع إلى «هاس» ورفاقه من العقلاء، وهم يؤكدون دائماً أن المصائب لا تأتي فرادى. وقد تكون أمريكا مشغولة في مشاكلها الداخلية بالفعل، لكن من الجنون مواصلة تجاهل التهديدات الخارجية المتراكمة. لا تملك أمريكا إيقاف حركة التاريخ ولن ينتظرها العالم حتى تفرغ من مشاكلها. عليها أن تتحرك الآن بعد أن أضاعت الكثير من الوقت. ولا بأس من أن تأتي متأخراً فذلك أفضل من ألاّ تأتي أبداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"