انتخابات بلدية باللون الأخضر

04:13 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

الفائز الأكبر في هذه الانتخابات هي نسبة التغيب عن الاقتراع والتي وصلت في بعض المدن الكبرى إلى أكثر من 77%

عندما أنشأ إيمانويل ماكرون وزير الاقتصاد المستقيل من حكومة فرانسوا هولاند حركة «الجمهورية إلى الأمام»، في العام 2016، كانت الأحزاب التقليدية التي حكمت فرنسا طوال الجمهورية الخامسة تعيش أزمة وجودية حقيقية (وما تزال). لذلك أراد من حزبه الجديد أن يكون بديلاً عن اليمين واليسار التقليديين بل بديلاً عن كل السيستم أو الاستابليشمنت. ونجح في إقناع الفرنسيين ففاز في الانتخابات الرئاسية بعدها بعام واحد قبل شهر من اكتساحه للانتخابات التشريعية التي منحته أغلبية نيابة تتيح له الحكم بمفرده من دون الاضطرار لتشكيل ائتلاف حكومي.

حكومة ماكرون الأولى عكست إرادة واضحة لتحقيق وعوده الانتخابية إذ جاء أعضاؤها في جلهم من خارج المنظومة السياسية ورئيسها ادوارد فيليب من أنصار اليميني الديجولي ألان جوبيه الذي كان وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء في عهد الرئيس شيراك. سياسات هذه الحكومة راحت تنحو إلى اليمين طوراً والى اليسار تارة وتقبع في الوسط في أغلب الأحيان.

لكن سرعان ما بدأت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تلاحقها وتعيق قدراتها على تحقيق الإصلاحات الموعودة. وبرزت حركة السترات الصُفر في باريس لتتمدد في العديد من المدن وتمارس أعمال شغب فتصطدم مع البوليس وتحول شوارع المدن، لاسيما جادة الشانزيليزيه الشهيرة، إلى ساحات معارك. ورغم تراجع ماكرون عن الضرائب على المحروقات التي كانت سبباً وراء هذه الاضطرابات إلا أن حركة السترات الصُفر استمرت في التصعيد وراحت تطالب ماكرون بالاستقالة. وعندما أصر الرجل على تنفيذ برنامجه المتعلق بالتقاعد الوظيفي لم يعد يعرف من أين تأتي الإضرابات والمعارضات، حتى حركة «الى الأمام» بدأت بالتفتت بعد أن غادرها كثيرون واستقال عدد من الوزراء (وزير الداخلية كولومب على سبيل المثال وهو من أعمدة الحركة).

وجاءت أزمة كورونا التي فاجأت الحكومة وكشفت عن تخبطها، الأمر الذي ساهم في انخفاض شعبية الرئيس، التي كانت تسير في منحى تنازلي، والذي أصر على إجراء الدورة الأولى من الانتخابات البلدية في 15 مارس/آذار الماضي، في أوج انتشار الجائحة، قبل أن يضطر إلى تأجيل الدورة الثانية إلى 28 يونيو/حزيران.

في هذه الانتخابات حقق الخضر وأنصار البيئة، وهم شباب غير معروفين في الأوساط السياسية تقدموا بوعود بيئية، تقدماً واضحاً كان قد بدأ في انتخابات البرلمان الأوروبي للعام 2019. هذه المرة سيطروا على المدينتين الأكبر بعد باريس: مرسيليا وليون بالإضافة إلى مدن مثل ستراسبورج وتور وبواتييه وبوزانسون وآنسي. أما « الغزوة » الأهم فكانت مدينة بوردو، حيث الحصن التقليدي لليميني الجمهوري ألان جوبيه والذي يتربع عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما هددوا معاقل كثيرة للاشتراكيين واليمينيين في مدن مثل ليل وتولوز وران.

من جهته استعاد الحزب الاشتراكي بعضاً من قوته بالمقارنة مع الهزيمة الماحقة التي مُني بها في العام 2014 والتي تواصلت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية ثم الأوروبية؛ إذ نجح هذه المرة في المحافظة على بلديات كبرى مثل باريس ونانت وران ولومان وبرست وأفينيون، بل استحوذ على بلديات جديدة مثل ديجون ونانسي ومونبيلييه. ومن جهته الحزب الجمهوري الذي كان قد حقق انتصاراً ساحقاً في العام 2014 فإنه خسر هذه المرة الكثير من البلديات مثل بوردو ومرسيليا.

الفائز الأكبر في هذه الانتخابات هي نسبة التغيب عن الاقتراع والتي وصلت في بعض المدن الكبرى إلى أكثر من 77% ما يعني أن بعض المنتَخَبين لم يحصلوا على أكثر من 10% من الذين يحق لهم الاقتراع، الأمر الذي يطرح أسئلة جدية حول الديمقراطية التمثيلية.

هزيمة مرشحي ماكرون والمرشحين الذين دعمهم بالتوازي مع فوز الخضر دفعت الرئيس إلى الإعلان عن مجموعة من القرارات لمصلحة المناخ والبيئة، الأمر الذي علقت عليه افتتاحية «لوموند» بالقول إنه يريد تلوين سياسته باللون الأخضر. وليس من قبيل المصادفة أن يستغني عن خدمات رئيس وزرائه ادوارد فيليب ليعين مكانه اليميني جان كاستكس الذي كان على رأس فريق إدارة أزمة كورونا فيشكل حكومة يطغى عليها اللون اليميني المائل إلى الاخضرار، استعداداً لانتخابات رئاسية صعبة بعد أقل من عامين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"