المتنبي تحت صخرة

04:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

ذكرت في مقال سابق أن «المتنبي لم يكن يخطط تخطيطاً منظماً للعبقرية وامتدادها عبر الزمان، بقدر ما كان يفكر في مجد أقل بكثير من مجد الشعر، لكن أبت كل الظروف إلا أن تضع الشاعر في مكانته المرموقة، وأن تضع السدود والعراقيل التي تعطل مسيرته نحو مجال آخر غير الشعر» ولم أكن حين كتبت هذا في معزل عن قراءة زمن المتنبي، وإسقاط زمنه على كل زمن يعيشه أي شاعر يحاول أن يبني له مجداً شعرياً لا ينفصل عن أحلامه الكبرى في تبوّؤ مكانة في مجتمعه، فالشاعر لا يبحث عن كون يحكمه دون بشر، إنما يسعى إلى أن يجد من يقدر عطاءه، ويرفع من مكانته، ويمنحه القليل من العلوّ الذي يوازي علوّ نصه، ولذلك يقدم كل ما لديه من جهد، ويفجر طاقاته الإبداعية لتكون رافعة لغاياته، ومساندة لرغباته في الحصول على التقدير الذي يرجوه، هذا الطموح الذي سيجعله تحت الضوء، وسيفتح العيون على هذا الصعود الذي كلما علا، كشف عن ذاته للآخرين، ومن هنا، سيسعى كل من يرى أنه لا يملك أجنحة مثلما يمتلكها الشاعر إلى أن يراه طيراً فريداً، وصيداً ثميناً يجب أن يرمى من هذا العلوّ، ولذلك سيبقى هذا الشاعر في محاولات دائمة من أجل أن يصعد إلى الغيم، مثلما يحاول غيره بدوافع كثيرة، منها الغيرة والحسد من أن يضعوا ما يستطيعون من أحمال على كاهله، تجعله يحاول بكل ضراوة وشراسة من أجل إسقاطها، ليصعد هارباً بحريته إلى سماء بعيدة يطل من خلالها على الكون ببهاء، لكنني أرى أن العراقيل والعقبات التي كانت تحول دون طموح المتنبي في تحقيق غايته التي اتخذ الشعر وسيلة لتحقيقها، هي من حققت له المكانة الشعرية، فالجفوة التي حدثت بينه وبين سيف الدولة الحمداني بعد سنين عاشها معه، ثم ذهابه إلى كافور في مصر، ثم بعد ذلك هجاء كافور، لهي دليل واضح على أنه كان يسخّر طاقات الشعر من أجل تحقيق مجد ذاتي، ولو أن المتنبي نال غايته، فإني أعتقد أنه لم يكن ليخلد، ولركن إلى الراحة وانشغل بها، وفقد لياقة طموحه، واستغنى عن قلقه الوجودي وهمِّ غايته، وهذا يحيلني إلى الحديث عن شعراء خلدتهم انكساراتهم أمام بوابات غاياتهم التي لم تفتح، فلو نال عنترة الحرية في بداياته، وحقق حلم عاطفته، فهل كان سيخلّد لنا شعراً أوصلته المعاناة إلينا؟ ولو أن قيساً اجتمع بليلاه تحت خيمة الاستقرار، هل كان سيستخدم وسيلة الشعر وهو في الدعة والسكون؟ ولو أن أبا فراس الحمداني لم يعش معاناة وجود المتنبي في بلاط ابن عمه سيف الدولة الحمداني، ولم يذق مرارة الأسر، هل كان سيجوّد شعره، ويسعى إلى اصطياد طرائد الشعر ونفائسه؟ ولو أن مجتمع الشعراء الصعاليك احتوى نزقهم وطموحاتهم، ولم يكن سبباً في جعلهم وحوشاً في البريّة، يحاولون بناء مدينة فاضلة حسب رؤاهم، فهل سيصل إلينا شعر الشنفرى وعروة والسليك وآخرين؟ ولو رقّ قلب ولادة وصفح عن تمرد الشاعر ابن زيدون، فهل كانا سيقولان الشعر الذي تناقلته الأجيال وخلّدت ذكراهما؟.
هناك الكثير من الأمثلة التي تفضي إلى أن معاناة الشاعر هي السبب الحقيقي لمواصلة إبداعه وخلوده، فهي السلاح الناعم الذي يصنع التوتر له ولغيره، فتكثر عداواته مثلما تكثر صداقاته، وتتسع مساحة صيته، مثلما تضيق عليه مساحة بيته، والحرمان هو الوقود الذي يجعل جذوة الشعر متّقدة، وناره متوهّجة، وضوءه لا ينطفئ، ونجمه لا يأفل، وغيمته لا تشح، وشمسه لا تغيب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"