حرب اللقاحات

04:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

حروب هذه الأيام ليست كالحروب التي حدثنا عنها التاريخ وعايشنا بعضها خلال السنوات الماضية، فهي مختلفة في استراتيجياتها وخططها وأسلحتها ومفرداتها، وأيضاً جنودها؛ حروب تخاض في ميادين متنوعة لا تشبه ميادين الحروب الكلاسيكية. فحروب زماننا، وهذا العام تحديداً، لها ملامحها الخاصة جداً المختلفة تماماً عن كل ما عهدناه، فهي ناعمة الملامح، شرسة النتائج، تعتمد على الصراع السيبراني وعلى السبق وتحقيق أو ادعاء التفوق العلمي، وعلى القدرة على سرعة كسب الزبائن قبل الآخرين، والزبائن هنا ليسوا أفراداً؛ بل دول وشعوب وحكومات وأصحاب قرار.
منذ أطل علينا كورونا، وبدلاً من أن يتوحد العالم لمواجهة الأوبئة والكوارث التي تهدد كل سكان الكوكب اليوم وغداً، فوجئنا به يقسمنا ويقصمنا، ويفرقنا ويشتّتنا، ويخلق صراعات وأزمات ويشعل حروباً جديدة.
عايشنا خلال الأشهر الماضية حرب الكمامات، وشاهدنا دولاً كبرى تقرصن كمامات عابرة من خلالها إلى دول أخرى، وعايشنا حرب العقاقير والأدوية التي أعلنوا عنها علاجاً، ثم تراجعوا لأكثر من مرة، بعد أن شككت دول ومنظمات في ما تبنّته دول أخرى. ومنذ غيّر هذا الفيروس اللعين ملامح حياتنا، والعالم على أبواب حرب جديدة هي حرب اللقاحات، بعد أن أعلنت دول عدة أنها تطور لقاحات، وأنها ستكون صاحبة السبق في طرح السلاح الذي سيقضي على عدو البشرية الجديد، حتى أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه، ليطلق شرارة الحرب الجديدة، ويعلن عن توصل بلاده إلى أول لقاح في العالم للقضاء على كورونا.
اللقاح الجديد خرج من مختبرات معهد جماليا الذي قام بتطويره بالاشتراك مع وزارة الدفاع الروسية. نعم وزارة الدفاع، لتأكيد أنه سلاح جديد في حرب تندلع عالمياً بملامح جديدة.
ولأنه سلاح في حرب سياسية، فقد كان من الطبيعي أن يعلن عنه القيصر بنفسه، ولا ينبغي أن نستغرب أن يعلن بوتين بنفسه عن اللقاح أو السلاح الجديد، فقد سبقه مراراً الرئيس ترامب بإعلانه عن إنجازات وهمية في معركة كورونا، ولم يتوقف عن ذلك إلا بعد أن عجز وإدارته عن السيطرة على الوباء الذي وجد الولايات المتحدة الأمريكية أكثر أرض خصبة له، ليصيب ويقتل فيها أبرياء لم تحمهم منه لا وعود الساسة، ولا محاولات الأطباء، ولَم ينل من كورونا كونها القوة العالمية الأولى عسكرياً؛ بل خلخل مكانتها كقوة علمية، وأصاب اقتصادها ليرديه منهاراً بنسبة 32%.
الساسة أزاحوا العلماء والأطباء عن مواقعهم ليتصدروا المشهد في معركة الوباء، آملين تحقيق انتصارات تزيد من رصيدهم، إلا أنهم فوجئوا بأنها تخصم الكثير من رصيدهم، وعلى رأس هؤلاء كان دونالد ترامب، ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، والرئيس البرازيلي بولسونارو، وغيرهم الكثير.
روسيا أعلنت عن جاهزية لقاحها للاستخدام، وسبقتها أمريكا مراراً بوعود عن لقاحها، إلا أنه لا يزال في مرحلة التجارب، والصين قبل أيام أعلنت أن لقاحها سيكون جاهزاً نهاية العام، والغريب أنها حددت سعره التجاري قبل جاهزيته بأشهر!
بوتين اختار للقاح الروسي الجديد اسم «سبوتنيك في» والمعروف أن سبوتنيك كانت السفينة التي سبق بها الاتحاد السوفييتي العالم إلى الفضاء، ولعل في اختيار هذا الاسم ما يريد به بوتين تأكيد عودة روسيا أقوى من الاتحاد السوفييتي السابق، وأنها مستقبلاً لن تستمد مكانتها عالمياً من قوتها العسكرية فقط، ولكن من سبقها العلمي أيضاً.
وعلى الرغم من أن قيصر روسيا لا يقحم نفسه في معركة إلا ولديه كل الضمانات لكسبها، فإنه هذه المرة قد تخونه حساباته. فبمجرد إعلانه عن اللقاح بدأت حملات التشكيك والتحذير الغربية منه، بسبب عدم استكماله تجاربه السريرية. وإذا سلمنا بأن التشكيك الغربي أمر طبيعي، وأننا في معركة يحق لكل طرف فيها التقليل من قيمة منجز خصمه، فإن الضربة الأقوى لبوتين هذه المرة، جاءت من داخل روسيا بعد أن استقال كبير أطباء الجهاز التنفسي هناك ألكسندر تشوتشالين، بسبب انتهاكات أخلاقية في ما يتعلق باللقاح، وبعد أن رفض 52% من الأطباء الروس تناول اللقاح حسب استطلاع رأي أجراه موقع «آر بي سي» الإخباري الروسي مع 3 آلاف طبيب.
معركة كورونا وحرب اللقاحات لم يتم التخطيط لها جيداً، لا من هذا الطرف ولا ذاك، ولا منتصر فيها حتى الآن، ولو أن ساسة العالم الذين يريدون استغلال مصائب الإنسانية لصالحهم، تخلوا عن أنانيتهم ووقفوا صفاً واحداً في مواجهة هذا الوباء، لانتصروا وانتصرت الإنسانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"