الجوار الروسي والقطب الأوروبي

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

تشهد دولة روسيا البيضاء (بيلاروسيا) اضطرابات داخلية منذ إجراء الانتخابات الرئاسية في التاسع من أغسطس الجاري. مبعث الاضطرابات هو احتجاجات واسعة النطاق على الانتخابات التي حملت الرئيس الكسندر لوكاشينكو إلى سدة الرئاسة لفترة خمس سنوات لاحقة، ولم يعرف مواطنو هذا البلد (أقل من عشرة ملايين نسمة) رئيساً سوى لوكاشينكو (66 عاماً) منذ استقلال بلادهم عن الاتحاد السوفييتي المنهار عام 1991. فقد تم هندسة دستور يتيح للرئيس تجديد ولاياته. وتم التوصل إلى ديمقراطية مقيدة ومنقوصة تتيح غربلة المترشحين للانتخابات، كما حدث في آخر جولة حيث تم استبعاد العشرات، بعضهم لأنه ارتكب «جريمة» تنظيم احتجاجات، ولم يتبق سوى خمسة مترشحين.
أما نتائج الانتخابات فهي مضمونة مسبقاً وقد نال فيها لوكاشينكو أزيد من 80 في المئة من الأصوات. وقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، وفرض بعض العقوبات على مسؤولين في هذا البلد الأوروبي المتاخم لروسيا. والأخيرة أنشأت اتحاداً كونفدرالياً مع بيلاروسيا، وتعتبر مصدراً رئيسياً للطاقة: النفط والغاز إليه. وحيال العقوبات الأوروبية أبدى المسؤولون الروس استعدادهم لدعم عسكري لهذا البلد، رغم أن مينسك لم تطلبه. ويعتبر إبعاد دول المنظمة الاشتراكية السابقة عن القطب الأوروبي هدفاً ثابتاً لموسكو.
وكانت مينسك احتجت قبل الانتخابات على تسرب عناصر من مجموعات فاغنر إلى الأراضي البيلاروسية، ربما لضمان سير هذه المناسبة سيراً حسناً!. والواضح أن سلطات بيلاروسيا لم تكن بحاجة إلى هذه العناصر، فلديها وسائلها المحلية.. الخاصة بها للضبط والربط وعدم انفلات النتائج عن الطريق المرسوم، وتصف المرشحة البارزة سفيتلانا تيتشانوفسكايا التي فرّت إلى ليتوانيا المجاورة هذا الطريق بأنه «التزوير» ولا شيء آخر. على أنه من اللافت أن الصين وتركيا وروسيا كانت بين دول قليلة باركت نتائج الانتخابات.
لم يعرف هذا البلد الأوروبي تجربة ديمقراطية، وما زال جهاز الدولة مثقلاً بالإرث الذهني والسياسي السوفييتي. وتقتصر تجربته على إجراء انتخابات مُسيطر على مداخلها ومخارجها مع تقييد الحريات المدنية. ورغم محاولاته بناء علاقات مع الغرب، إلا أن الرئيس لا يعرف في زياراته للخارج طريقاً إلى عاصمة أوروبية. وإذ يجري الحرص على العلاقات مع موسكو فإن الرئيس الحالي ينزع إلى قدر من الاستقلال عنها وخاصة في الشكليات. وهو ما يثير بين فترة وأخرى توترات عابرة مع موسكو.
وتعتبر الروسية اللغة الرسمية الثانية في البلد مع وجود أقلية روسية تشكل نحو 11 في المئة من السكان. وقد نجح الرجل رغم سجله هذا، في تحسين الوضع الاقتصادي لبلاده منذ مطلع القرن الجاري، حيث لا يقل مستوى الحياة في بيلاروسيا عن دول في شمال وفي غرب القارة ناهيك عن شرقها. وهو ما يعزز فرص بقاء الرئيس، وذلك باعتماده على اشتراكية السوق (مزيج من الاشتراكية والسوق الحر) وعلى جذب الاستثمارات والسياحة.
ومع احتفاظ الدولة بالسيطرة على القطاعات الاقتصادية الرئيسية والتمسك بسياسة الاعتماد الذاتي.. فيما يصف الطريق الروسي بأنها رأسمالية هجينة. ولهذا فإن الاحتجاجات تركز على مطلب تداول الحكم والانتخابات النزيهة والحريات المدنية، ولا تشمل التذمر من ظروف الوضع الاقتصادي أو البيئي أو الصحي، مع احتفاظ الرئيس بقدر من الشعبية.
على أن القيادة البيلاروسية تعرف مع ذلك حجم الضغوط الخارجية والداخلية، فبينما تحدث لوكاشينكو عن أن إعادة الانتخابات التي يطالب بها المحتجون والمعارضون ستؤدي إلى هلاك البلاد! وذلك إلى جانب وصفه لهؤلاء ب«الجرذان». إلا أنه عاد وأبدى استعداده لتنظيم انتخابات جديدة، على أن تسبقها تعديلات دستورية، ولم تعرف على الفور طبيعة التعديلات التي تهجس بها الرئاسة..
المأمول أن تتطور الأوضاع في هذا البلد بغير تدخلات خارجية، بعيداً عن العنف وعن عسكرة الحياة السياسية، وأن تسمح جميع الدول المجاورة له بأن يشق طريقه التشاركي الخاص، وأن يحتفظ بعلاقات طيبة ومتكافئة مع جميع دول الجوار (ليتوانيا وبولندا وروسيا وأوكرانيا) وأن يكون حظه أفضل من حظ أوكرانيا التي عانت تدخلات خارجية منذ عام 2014، وأن يثبت الفاعلون السياسيون بمن فيهم المسؤولون الحاليون كفاءتهم في الإصغاء لشعبهم وتوسيع نطاق المشاركة، مثلما أظهروا كفاءة في الشأن الاقتصادي على مدار العقدين الماضيين وحتى أيامنا هذه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"