المسؤولية الأخلاقية والمواطنة

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تطور مفهوم المسؤولية الأخلاقية خلال التاريخ الإنساني بشكل كبير، وحصلت قفزات مهمة في منح هذا المفهوم تأويلات عديدة، لكن الثابت في أركان هذا المفهوم أنه يقف على النقيض التام مع الجبرية المطلقة، ويمنح الفاعل الاجتماعي دوراً رئيسياً في تحديد النتائج المترتبة على الأفعال، ويمكن القول إن علم السياسة، بوصفه علماً للاجتماع السياسي، المحدد بأدوار الفاعلين الاجتماعيين، وكذلك بردود أفعالهم، هو علم يرتبط بشكل جذري بمفهوم المسؤولية الأخلاقية، بل إن المسؤولية الأخلاقية هي مؤشر نوعي على أشكال الممارسات في الحقل السياسي.
يعود تاريخ المفهوم من الناحية التأسيسية إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو ‏(384 ق.م - 322 ق.م )، وقد منح أرسطو الظروف التي يُمارس فيها الفعل أهمية قصوى لتحديد مدى مسؤوليته الأخلاقية، وهذه الخطوة في تحديد طبيعة الظروف الموضوعية هي خطوة كبرى، في حينها، للخروج عن النسق التأويلي الجبري، ويضع الفاعل الاجتماعي في موقع الاختيار، وبالتالي وضعه تحت اختبار حكم القيمة، وهو ما يمنح الجمهور عموماً، إذا ما تحدثنا عن حقل السياسة، حكماً في إصدار حكم القيمة، وليس جعله مجرد متلقٍ سلبي للفعل، باعتبار أن الفعل مسألة جبرية. وقد ذهبت بعض النظريات في علم الاجتماع السياسي إلى منح الفاعل الاجتماعي دوراً كبيراً، ومتقدماً، على حساب الظروف الموضوعية، وهذه الظروف الموضوعية، أصبحت تعرف في التنظيرات الماركسية ب«الشروط التاريخية»، والتي يتموضع بسببها، وضمنها، الفاعلون الاجتماعيون، ضمن الطبقتين المتناقضتين الرأسمالية والعمالية.
إن أحد أهم الأسئلة التي تواجهنا اليوم في مفهوم المسؤولية التاريخية هو تحديد الشروط التاريخية التي يمارس فيها الفاعلون الاجتماعيون أدوارهم، لكن المشكلة تكمن في أن جملة الشروط التاريخية نفسها قابلة للتأويل عبر قراءات عديدة، فكرية وسياسية وإيديولوجية واقتصادية واجتماعية، ومن الصعب، في ظل تضارب المناهج والمرجعيات والمصالح، القول بصوابية قراءة واحدة للشروط الموضوعية، بل إن الدرس التاريخي يعلمنا أن الحكم المبكر على شرط تاريخي ما، عبر نجاح فاعل تاريخي محدد، في لعب دور نوعي، قد يكون خاطئاً، ففي التجربة الروسية، على سبيل المثال لا الحصر، كان نجاح الثورة البلشفية في عام 1917، سبباً لادعاء عدد من الفلاسفة والمنظرين بأن الشرط التاريخي كان سانحاً لقيام الفاعل التاريخي بالثورة، وهو ما أظهر التاريخ لاحقاً عيوب حكم قيمة من هذا القبيل.
على مستوى السياسة بوصفها أداة من أدوات التنظيم المجتمعي، فإنه، ومع استثناءات قليلة، لا يزال مفهوم المسؤولية الأخلاقية مفهوماً له دلالات حاضرة في الفعل السياسي/ الإداري، مع اعتلالات كبيرة وفاضحة للعلاقة التي حدّدها أرسطو بين المسؤولية الأخلاقية وبين الثناء والملامة، حيث إن النخب السياسية، ومن خلال الدساتير، التي يفترض أنها الابنة الشرعية لمفهومي العقد الاجتماعي والدولة الحديثة، هذه النخب السياسية تقف في موضع أعلى من الملامة، وفي لغة عصرنا فوق المساءلة القانونية، وهو ما يرفعها فوق الشرط التاريخي نفسه، ويجعلها مستقلة عن الظروف الموضوعية.
أما إذا ذهبنا لجعل الدولة الحديثة توأماً للمواطنة، وللنظام الديمقراطي، أي دولة الحق والقانون، فإننا نجد أن مفهوم المسألة الأخلاقية يغدو قابلاً للقياس، كمياً ونوعياً، كما أن هذه الدولة، بوصفها دولة المشاركة في الفعل الاجتماعي/ السياسي تتقاسم أعباء المسؤولية الأخلاقية، فلا يعود مفهوم المسؤولية الأخلاقية مجرداً، أو منوطاً بنخبة ما، وإنما بمجمل العملية التفاعلية التي تنتج السياسات، وفق بناء سياسي، قانوني وحقوقي في الوقت ذاته.
أهمية هذا الارتباط بين مفهوم المسؤولية الأخلاقية وبين مفهوم المواطنة هو أن المساءلة بمعناها الاستفساري (أي السؤال عن الدافع وراء الفعل)، أو المساءلة من منطق قانوني عن نتائج الفعل، تكون مؤسسة على قدر كبير من الحرية، فالفاعل الاجتماعي في هذه الحالة هو فاعل في منظومة تمتلك قدراً كبيراً من الحرية، التي تجد تعبيراتها في منظومات قانونية حرة، مثل النقابات والاتحادات والجمعيات والأحزاب السياسية والإعلام والقضاء المستقل، وغيرها من التعبيرات التي تشكل منظومة المواطنة، والتي تمتلك في الوقت ذاته إمكانية المشاركة في عملية الفعل الاجتماعي، والتشارك في المسؤولية الأخلاقية لعواقب الخيارات الناجمة عن الأفعال، وتحمل النتائج المترتبة عليها،

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"