بعيداً عن العالم

02:49 صباحا
قراءة 6 دقائق
** يوسف أبولوز

لكثرة ما وجدت من مادّة ورقية ورقمية حول عادات وطقوس الكتابة عند شعراء وروائيين بشكل خاص، خطر لي أن أبحث عن أولئك الذين لا عادات ولا طقوس للكتابة عندهم، ولكن هذه المقاربة تأخذك إلى مسار آخر عندما تكتب في موضوع كهذا، وهي أن الكتابة في حدّ ذاتها هي عادة وهي طقس، وأكثر من ذلك هي حياة سرّية عند الكثير من كتّاب العالم، ويبدو أن هناك مشتركاً واحداً بين الكتّاب، وهو أن أحدهم لا يمكن له أن يكتب وأمامه شخص آخر يراقبه. إن الكتابة سلوك فردي ذاتي سرّي، ولا يمكن لشاعر مثلاً أن يكتب قصيدة وملهمته جالسة أمامه، مثلما يفعل الرسام الذي يلجأ إلى موديل يعطيه الصورة وتفاصيلها في لحظة مجرّدة من الإلهام، ذلك أن الإلهام يحيل إلى فكرة الغياب، فالملهِمْ، عادة، هو غائب أو بعيد، والكتابة الإلهامية هي كتابة الغائب أو كتابة النّائي والبعيد.
الكتابة أيضاً نظام وتنظيم، إنها في هذه الحالة تخرج من حالة الطقس والعادة إلى حالة «الوظيفة» اليومية المحدّدة بزمن أو المحدّدة بوقت مُعين، وعند قراءتي لطقوس وعادات الشعراء والروائيين وجدت الكثير منهم يكتبون في ساعات محدّدة، ولكن اللّافت حقاً في قصص عادات وطقوس الكتابة أن الكثير من الكتّاب يبدأون عملهم في ساعات الصباح الأولى. البعض يكتب عند الفجر مثلاً وحتى الظهر أو قبل الظهر، الأمر الذي ينفي تماماً الصورة النمطية المتداولة عن الكتاب والشعراء والأدباء، وهي أنهم ينامون حتى الظهر أو ما بعد الظهر، وذلك بعد سهر ليلي صاخب، هذه صورة مغلوطة تماماً، فالكثير من الكتّاب ينهضون مبكراً، ويباشرون عملهم عند شروق الشمس أو قبل أو بعد ذلك بقليل.
تساءلت بيني وبين نفسي.. لماذا يكتب هؤلاء مبكراً؟، وأجتهد هنا قائلاً إن الكتابة في حدّ ذاتها هي قلق شخصي، وهي أيضاً قلق وجودي. إنها قلق يومي يجعل من النوم الطويل في حدّ ذاته بذخاً أو ترفاً ينفر منه الشاعر أو الكاتب عموماً، هذا الكاتب الذي يجد في الصباح الباكر بداية يوم جديد من حياته، إذا ما اُعْتِبرَ أن النوم شكل من أشكال الموت، كأن الكتابة مبكراً هي، نفسياً، نوع من الاحتفال بالحياة الجديدة. الحياة التالية مباشرة للموت. إننا نلاحظ هذه الاحتفاليات الفجرية الصباحية عند الروائي الياباني مورا كامي الذي يبدأ الكتابة عند الرابعة فجراً، وحتى العاشرة.


غرابة


الروائي الإيطالي البرتو مورافيا «كان يستيقظ عند السادسة صباحاً، وبعد أن يتناول إفطاره يصعد إلى مكتبه في الطابق الأول، وهو المكان المفضل إليه للكتابة؛ حيث تطل نافذته على البحر، ويراقب الناس وهم يعيشون حياتهم اليومية» كما جاء في كتاب «طقوس الروائيين.. أين ومتى وكيف يكتبون»، والكتاب هو من إعداد الباحث السعودي عبد الله الدّاوود، وتجدر الإشارة هنا أن الكتاب جهد ميداني جاذب للقراءة، وجاء في ثلاثة أجزاء يتيح لنا أن نطل على طقسيات كتابية بعضها يثير الاستغراب فعلاً، ويكشف عن أطوار غريبة لعدد من الكتاب العرب ومن العالم، لكن أطرف ما جاء في الكتاب هو اعتراف بعض الروائيين أن خطوطهم بالغة الرداءة، وأنهم عندما يكتبون ويعودون إلى أوراقهم لا يعرفون حتى قراءة خطوطهم، وهكذا جاء الكمبيوتر لينقذ هؤلاء من رداءة الخط مثل الروائي الجزائري عزالدين جلاوجي، والروائي السوري فوّاز حدّاد، ومن طرائف طقسيات الكتابة أن الروائي الأمريكي دان براون كان يعلّق نفسه بالمقلوب «كي يسترخي ويركز في الكتابة»، أمّا غادة السمان، وبحسب شهادتها في كتاب عبدالله الدّاوود فإنها تضع إلى جانب قلمها زجاجة من الماء، وتشرب الكثير من الماء وهي تكتب، وقد وجدت أيضاً أن الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد يشرب الكثير من الماء في أثناء الكتابة.
على أية حال سأمرّ على الكثير من هذه العادات والطقوس، إن كان يمكن توصيفها طقوساً، ولكن الآن دعنا نعود إلى ساعات الفجر الأولى للكتابة، فأجمل أوقات الكتابة بالنسبة للناقد السعودي تركي الحمد في الصباح الباكر أو في الهزيع الأخير من الليل، والروائية الأمريكية توني موريسون تكتب في الصباح الباكر. والروائي المصري خالد البرّي يكتب في الصباح الباكر، وكذلك الروائي الأردني إلياس فركوح، والكاتبة السعودية أميمة الخميس، وكان أنيس منصور يباشر الكتابة عند الرابعة صباحاً «وهو حافي القدمين»، وفي شأن القدمين كان الروائي الأمريكي أرنست همنغواي ينتعل خفّين أكبر من مقاس قدميه، ويكتب وهو واقف، وكان فرناندو بيسوا يكتب واقفاً أحياناً وهو مستند إلى جدار، غير أن حكاية بيسوا في حدّ ذاتها هي طقس آخر في منتهى الغرابة، فهذا الرجل الذي يُعَدّ إحدى العلامات الوطنية التاريخية في البرتغال 1888-1935، كتب تحت أكثر من 80 اسماً مستعاراً، أي اختار من ناحية طقسية تماماً أن يكون هو في حدّ ذاته 80 فرناندو بيسوا، ولكن بأسماء مختلفة.. أليس هذا نوعاً من «جنون» طقسي لصاحب كتاب «اللّاطمأنينة»، وكيف يمكن لكاتب لا يعرف الطمأنينة أن يعيش أكثر من 47 عاماً.
لنعد مرة ثانية إلى الصحو المبكر والكتابة، أو الفجر والكتابة؛ حيث «يُلدغ الكاتب من عقرب الوقت في الصباح الباكر»، فالشاعر التونسي المنصف الوهايبي، كما جاء في مقالة للشاعر شوقي بزيع عن طقوس الكتابة وأحوالها الغريبة يكتب مبكراً، ويربط الوهايبي بين هذا الطقس الزمني اليومي بصفاء ما بعد النوم «حيث المسافة قريبة بين اللغة والأحلام، إضافة إلى أن كلاً من الجسد والنفس، يكونان تلك الساعة في حالة من التيقظ والحيوية اللّازمين لأي نشاط ذهني وإبداعي»، غير أن أطرف ما يكشف عنه شوقي بزيع في كتابته عن غرائب طقوس الكتّاب أن نزار قباني عندما يتهيأ للكتابة يستلقي على الأرض وينام على بطنه ويكتب، ومن طرائف طقوس الكتابة ما ذكره بزيع عن الشاعر الألماني شيلر «كان يضع تفاحة في درج المكتب الذي يجلس إليه، ثم يعمد خلال الكتابة إلى شمّها وتحسّسها بين حين وآخر» إلى جانب شرب الكثير من الماء أثناء الكتابة، وهناك من الكتّاب من يستمع إلى الموسيقى الهادئة، في أثناء الكتابة، لكن الغريب أن هناك من يفضل الموسيقى القوية الصاخبة، بل ثمة كتّاب يفضلون الكتابة في جوّ من الصخب أو الضجيج، بعكس الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز الذي كان يضع باباً إضافياً لمكتبه؛ كي يتجنّب ضوضاء الخارج.


أوهام


ترى.. هل من الضروري أن يكون هناك طقس للكتابة؟:... موسيقى، وعطر، وبخور، ونافذة مطلّة على بحر، وصباح مبكّر، وقهوة وسجائر وورد أصفر كانت تضعه كل يوم «مرسيدس بارشا باردو» زوجة غابرييل غارسيا ماركيز في مزهرية قبل أن يباشر صاحب «مئة عام عن العزلة» الكتابة؟.. للإجابة عن هذا السؤال الطويل.. يقول الروائي الفلسطيني ربعي المدهون: «إن الرابط بين الكتابة وعادة ما هو وهم يتحول إلى طقس حين نحبّه ونتعوّد عليه، لكنه وهم جميل يساعدنا على الإبداع إلى أن نتخلى عنه».
في كل الأحوال أسوق هذا الرأي الذي يتعلّق بعادات وطقوس الكتابة، فهذه العادات والطقوس مرتبطة أصلاً بزمن الكتابة بالقلم وعلى الورق.. والأغلبية من الكتاب تتجنب الكتابة على الورق المسطور، والكتابة بقلم والحاجة إلى ورق تتطلب بالضرورة مكاناً محدّداً، وهو المكان ذاته الذي يربي العادة والطقس سواء أكان هذا المكان في البيت أو في المكتب أو في المقهى.. أما اليوم فقد انتهى زمن القلم والحبر والورق، فهو زمن الكتابة على الكمبيوتر عند الكثير من الكتاب. والكمبيوتر إذ يلغي القلم والحبر، كما يلغي الحاجة إلى مكان محدد، فإنه يلغي بالتالي العادات والطقوس.
إن الكتابة بما هي في حدّ ذاتها طقس ونظام وتنظيم وقلق وحرث على الورق وعودة إلى الحياة عند الفجر.. هي أيضاً أناقة ورقيّ ونوع من السيادة والإشباع والاكتفاء، وهكذا، فالكتابة على النقيض الكلّي مع الفوضى والتصعلك والابتذال في المكان وفي الثياب وفي السلوك.

الكاتب يحمل في داخله فارساً، وذاتاً كبريائية وروحاً أميرية ملوكية، وهو بذلك يحترم نفسه ويحترم الكتابة نفسها عندما يمارسها في مكانها الرّاقي المحترم.


إرث الأناقة


يقول الصحفي الكولومبي بيلينيو مندوزا عن غابرييل غارثيا ماركيز في كتابه «رائحة الجوّافة»: «يقيم ماركيز في مكسيكو معظم فصول العام. لديه منزل مريح في بيدريجال دي سان انجل... وهو حيّ راقٍ يقع فوق صخرة بركانية، ويقيم فيه الرؤساء السابقون، رجال المصارف، نجوم السينما الذين حققوا ثروات لا بأس بها، وفي داخل المنزل، تكون درجة الحرارة واحدة طوال أيام السنة، دافئة مثل ماكوندو حتى في الأيام الممطرة والباردة في الخارج..». وفي مكان آخر يقول مندوزا عن ماركيز.. «.. لم يعد يكتب الآن أثناء الليل، كما اعتاد في أيام الفقر القصية، وإنما هو يكتب الآن من التاسعة صباحاً وحتى الثالثة بعد الظهر كل يوم، ويرتدي واحدة من الحلل المماثلة لتلك التي يرتديها فنّيو الطائرات. يتم تقديم الغداء في الموعد الإسباني المألوف، أي عند الساعة الثالثة، وبعد الغداء عادةً ما يجلس ويستمع إلى الموسيقى».
رحل ماركيز في 17 إبريل/نيسان 2014، وما كتبه مندوزا في حياته هو جانب من إرث رجل لم يرتهن إلى طقس أو عادة في الكتابة، بل، كان هو ذاته الطقس الكاريبي الأنيق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"