خريطة باهتة تخصنا

03:21 صباحا
قراءة 6 دقائق
** القاهرة: مدحت صفوت

لا يمكن اعتبار متاحف الأدباء والكتّاب والمبدعين مجرد أماكن لتكريم بعض الرموز الأدبية فحسب، إنما هي مؤسسات ثقافية، تعمل من أجل تعزيز المعرفة حول الأدب ودوره في المجتمع، وليست أيضاً نشاطاً ترفياً، إنما هي جزء أصيل من عملية التأريخ الأدبي التي هي بدورها تعد جزءاً من تاريخ البشرية.
لعل النظرة التكريمية لفكرة متاحف الأدباء هي التي أدت إلى ندرة وجودها في المجتمعات العربية، فيما أدركت المجتمعات الغربية الدور المنوط بمتاحف المبدعين، فراحت تدشن العشرات؛ بل قل المئات، حتى إننا لا نجد مدينة غربية إلا وحوت متحفاً كبيراً أو صغيراً لأحد أعلامها من الكتّاب والشعراء والروائيين وغيرهم.


دبلن في 300 عام


ففي أوروبا، وفي عام 1991، افتتحت أيرلندا متحف كتّاب دبلن، الذي يقع في قصر يعود إلى القرن الثامن عشر، وهو مزين على نحو رائع في شمال وسط المدينة، بجوار حديقة الذكرى، ويستعرض حياة وأعمال أدباء دبلن المشاهير على مدى الثلاثمئة عام الماضية.
ويحتوي المتحف على نسخة طبق الأصل مفصلة من «كتاب كيلز»، الذي يُعرف أحياناً بكتاب كولومبا، وهو مخطوطة مذهبة من الإنجيل مكتوبة باللغة اللاتينية، وتجمع نسخ الأناجيل ال4 من العهد الجديد جنباً إلى جنب مع مختلف النصوص التمهيدية والجداول. وكُتب في دير كولومبا في أيرلندا أو يعتقد أنه ضم مساهمات جمعت من مختلف أديرة كولومبا من كل من بريطانيا وأيرلندا، ويرجع إلى عام 800 ميلادية.
ويضم «هاتف» صامويل بيكيت، رسالة من الشاعر والمسرحي بريندان بيهان مؤلف «الرهينة» إلى أخيه؛ إلى جانب نصوص للمسرحية إيزابيلا أوجاستا، ليدي «جريجورى»، ورسالة من الشاعر وعضو مجلس العموم ويليام بتلر ييتس ترجع إلى عام 1910، وطبعة 1804 من «رحلات جاليفر» للكاتب ورجل الدين جوناثان سويفت، وبعض كتابات تخص جيمس جويس، ومخطوطة من رواية «دراكولا» لبرام ستوكر، إلى جانب رسالة موقعة من ستوكر نفسه، وكتابات خاصة بأوسكار وايلد، والعديد من الصور الأصلية لفنانين مثل: باتريك سويفت وريجينالد جراي وإدوارد ماكجواير وهاري كيرنوف.
في الشمال من أيرلندا، يمكن لزائر العاصمة الإسكتلندية إدنبرة، أن يزور متحف الكُتّاب الذي يقع في مبنى من القرن السابع عشر، وتحديداً إلى عام 1622، وأسس لتكريم ثلاثة من الكتّاب الإسكتلنديين البارزين؛ وهم: روبرت بيرنز، والسير والتر سكوت، وروبرت لويس ستيفنسون.
داخل المتحف، يتفحص الزائرون كتباً ومخطوطات وصوراً ومتعلقات شخصية تخص الأدباء الثلاثة؛ أبرزها: الإصدارات الأولى من رواية سكوت «ويفرلي» نشرت عام 1814، وكلاسيكية ستيفنسون «حديقة أشعار الطفل»، والمطبعة التي طبعت عليها «ويفرلي»، إلى جانب الكرسي الذي استخدمه بيرنز لمراجعة «البراهين» في مكتب بمطبعة ويليام سميلي، وخزانة ملابس ستيفنسون التي صنعها «ديكون برودي» سيئ السمعة، وهو عضو يحظى باحترام كبير في مجتمع إدنبرة، كصانع حكومي ماهر وعضو في مجلس المدينة وشماس، كانت له مهنة ليلية سرية كقائد لعصابة من اللصوص، وقد ألهمت حياته المزدوجة ستيفنسون في روايته «الدكتور جيكل. والسيد هايد».
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فخارج المتحف تقع ساحة محكمة مكارس التي تحتفل أحجارها بنقوش من اقتباسات وكتابات أدباء إسكتلندا من القرن الرابع عشر حتى يومنا هذا، وباللغات التي استخدمها سكان إسكتلندا في الماضي والحاضر: الغيلية أو الغايلية والإسكتلندية والإنجليزية واللاتينية، ويصفه الإسكتلنديون ب«معلم أدبي وطني متطور»، ومؤخراً أزيح الستار عن نصب تذكاري جديد بالساحة يحتوي على اقتباسات الشاعرين جورج كامبل هاي «1984» وويليام سوتار «1943».


جين أوستن


وفي قلب المملكة المتحدة، يبرز متحفان بإنجلترا، أولهما متحف منزل جين أوستن الذي يقع في قلب قرية تشوتون الهادئة الصغيرة، قرب هامبشاير، ويبدو أقرب إلى الكوخ لضيق مساحته، ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن ال17 وهو مزود بإطار خشبي وواجهة مصنوعة من الآجر، وجرى اختياره؛ لقضاء أوستن آخر 8 سنوات من حياتها فيه، ويضم كمية من المجوهرات الخاصة بأوستن والمنضدة التي كانت تكتب عليها وغيرها من المقتنيات.
أما المتحف الثاني فهو متحف تشارلز ديكنز بلندن، المكان الذي كتب فيه المؤلف أوليفر تويست ومذكرات بيكويك، وحقق فيه الشهرة العالمية بصفته واحداً من أعظم كتّاب السرد في العالم. وبزيارة المتحف يكتشف الإنسان العالم الخاص وراء الصورة العامة للمؤلف، يعرف دراسته، ويطالع غرف نوم العائلة، ومساكن الخدم تحت الدرج، ويشاهد الكنوز بما في ذلك مكتب ديكنز والمسودات المكتوبة بخط اليد من الروايات وخاتم خطوبة زوجته الشابة، والتمتع بالغرف المزينة بأثاثها، وأدوات المائدة، والصور الشخصية، والتماثيل النصفية من الرخام، والزخارف واللوحات الصينية.
اللافت في عاصمة الضباب هو متحف الشخصية الروائية الخيالية «شرلوك هولمز» التي ابتكرها السير آرثر كونان دويل ولا تزال واحدة من أشهر الشخصيات الأدبية في العالم التي دخلت إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية؛ باعتبارها «الشخصية السينمائية الأكثر تجسيداً»، وربما يكون هذا هو السبب في إعادة تصميم المنزل الفيكتوري الذي عاش فيه محقق إنجليزي، ليصبح متحف شيرلوك هولمز، وصمم من الداخل كما وصفه دويل في قصصه.


كواليس شكسبير


أمّا أديب بريطانيا الأشهر شكسبير، فتحول مسقط رأسه الذي يرجع إلى القرن السادس عشر بمنطقة ستراتفورد إلى مزار يجذب ملايين الزوار، فيما أنشأت الولايات المتحدة مكتبة فولجز شكسبير بالعاصمة واشنطن، وتضم أكبر مجموعة من الأعمال الخاصة به، وتستضيف مجموعة من العروض والمحاضرات، وتتيح للزائرين معرفة أهم المعلومات وراء الكواليس الخاصة بأعمال المسرحيات.
في ألمانيا، يبرز متحفان الأول في مدينة براغ وهو خاص بفرانز كافكا، والثاني في مدينة كالو المخصص لهيرمان هيسه، وهو مبنى تاريخي يطل على سوق ولد فيه هيسه، ويضم 10 غرف تسرد جزءاً مهماً من تاريخ ألمانيا وأحد أكثر كتّابها جماهيرية.
وفي العالم العربي، تبدو متاحف الأدباء في جلّ الأحيان فكرة ليست واردة في حسبان القائمين على العمل الثقافي، الأمر الذي أدى إلى تراجع ملحوظ في عددها، إلى درجة خلو بعض البلدان العربية من هذه النوعية من المتاحف.
وبسهولة، يمكن تتبع الخريطة الضئيلة لمتاحف المبدعين العرب، ففي العراق لا نجد سوى متحف بدر شاكر السيّاب في مسقط رأسه «جيكور» بالبصرة وبيت محمد مهدي الجواهري. وفي سوريا متحف عبد القادر الجزائري، وفي فلسطين متحف محمود درويش، وإن بدا مركزاً ثقافياً أكثر من كونه متحفاً.
وفي مصر، في الشمال بالإسكندرية تحول «منزل كفافيس» بمحطة الرمل، إلى متحف يضم مقتنيات للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي ولد في الإسكندرية عام 1863، وبإشراف من الجمعية اليونانية التي عملت على جمع ما تبقى من مقتنيات من سرير ومكتب وبعض الكتابات والصور وغيرها.
في القاهرة، انتظر المصريون قرابة 13 عاماً لتحويل «تكية أبو الدهب» لمتحف خاص بمقتنيات أديب نوبل نجيب محفوظ، ويتضمن قاعة للندوات ومكتبة عامة ومكتبة سمعية - بصرية وأخرى نقدية تحتوي على دراسات وأبحاث مهمة عن إبداعات محفوظ، فضلاً عن قاعات للأوسمة والميداليات والشهادات التي منحت له ومتعلقاته وأوراقه الشخصية ومؤلفاته وصوره. وعلى الرغم من وجود متحفين آخرين بالقاهرة هما مركز رامتان الثقافي «خاص بطه حسين» وكرمة «ابن هانئ» الخاص بأحمد شوقي، فإنهما يتجليان بوصفهما مراكز ثقافية أكثر من كونهما متحفين.


مقتنيات حميمية


بدأ العمل في تأسيس متحف نجيب محفوظ منذ عام 2016، وافتتح في 2019 في منطقة «تكية أبو الدهب» التاريخية، وتتضمن مقتنيات المتحف التي سلمتها أم كلثوم نجيب محفوظ لوزارة الثقافة في مطلع عام 2011 أشياء حميمية مثل قلمين أحدهما حبر والآخر جاف أهداهما الأديب الكبير توفيق الحكيم الذي اشتهر بالحرص لصديقه نجيب محفوظ، فضلاً عن ملابس للأديب المصري وساعته المعدنية وحتى نظارات وعدسة للقراءة ومستلزمات حلاقة الذقن وسبحة وقطعة صخرية من سور برلين الذي كان يفصل العاصمة الألمانية الحالية إلى شطرين في عصر الحرب الباردة.
يلتقي الزائر داخل هذا المتحف بشخصيات عالم نجيب محفوظ وأفلامه والحارة المصرية التى ألهمت إبداعاته، كما يتفاعل مع أصداء سيرته الثرية المديدة ومسيرته الأدبية التي تشكل العلامة الرائدة في الأدب العربي الحديث، فيما يجد في «قاعة التجليات» أفكاره الفلسفية كما تبدت في سلسلة نقاشات مع الكاتب والأديب الراحل جمال الغيطاني ويستعيد الأجواء القاهرية الحميمة في «ركن مقهى الحرافيش».
جدير بالذكر أن «تكية أبو الدهب» أقيمت عام 1774 قريباً من البيت الذي ولد فيه نجيب محفوظ في حي الجمالية في قلب القاهرة المعزية، استلهم منها أغلب شخصياته وأماكن رواياته مثل بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وزقاق المدق وخان الخليلي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"