الأمة والدولة القومية الحديثة

03:46 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يعرف مفهوم الأمة في الأدبيات السياسية العربية التباساً كبيراً نتيجة لمرجعياته المعرفية المتعددة، وبسبب التوظيفات الإيديولوجية المتعارضة التي يخضع لها. وهذا الالتباس شبيه إلى حد بعيد بذلك الغموض الذي نلفيه بشأن مفهوم الدولة بين معناه الحديث المرتبط بميلاد الدولة القومية، وبين التصور الديني لنظام الحكم؛ وبالرغم من أن مفهوم الأمة في سياق الثقافة الغربية يعتبر مقولة سياسية وقانونية تم ضبط دلالاتها لتنسجم مع مقتضيات التشريعات المنصوص عليها في دساتير الدول، إلا أنه يظل متأرجحاً في الثقافة العربية بين السياقين اللغوي، والديني، حيث يذهب البعض إلى تأسيسه على قاعدة اللسان، بينما يدافع البعض الآخر عن بعده الديني.

ويشير الباحث هنري بينا رويز، إلى أن لفظ أمة يعود إلى الجذر اللاتيني للكلمة التي تعني «الميلاد»، وبالتالي فإن المعنى الطبيعي يحيل بداية إلى مكان الميلاد، ويرتبط من حيث أصله الاشتقاقي بمجموعة من الكائنات البشرية التي يجمع بينها الأصل، ومكان الميلاد المشترك، المحدّدين في المكان والزمان؛ وقد أصبح هذا المعنى الضيّق للفظ متجاوزاً الآن لمصلحة معنى أكثر انفتاحاً، وحرية، يشير إلى الأمة بوصفها بناء سياسياً، يمكن من خلاله للبشر أن يتخذوا قراراً بإنشاء تنظيم مشترك قائم على مبدأ «العيش المشترك»، المستند إلى الإرادة الجماعية المُعبّر عنها من خلال قرار سيادي لشعب يحرص على اختيار قوانينه التأسيسية المشتركة، وفق نموذج تتراجع على أساسه المرجعية الهوياتية المتعلقة بالعرق، والخصوصيات الثقافية، لمصلحة تصور سياسي تتدخل في إطاره الإرادة البشرية لتحدِّد أسلوب العيش المشترك بالشكل الذي تترك فيه الأمة القائمة على العرق، والدين، مكانها للأمة القائمة على القانون الذي يضمن الخير للجميع.

ويذهب جان فرانسوا دورتيه في السياق نفسه، إلى أن أوروبا عرفت في القرن التاسع عشر مرحلة نهوض القوميات، حيث أرادت النخب توحيد الأقاليم، والإمارات، لتشكيل أمة موحّدة، ويعتبر أرنست جلنر أن الدولة - الأمة الحديثة هي نتاج المجتمع الصناعي، وهي أيضاً نتاج بشكل خاص للمدرسة التي تُسهم في خلق وعي قومي بفضل التجانس الثقافي الذي تسمح بتأمينه، وهو ما اعترض عليه أنطوني د. سميث الذي تبنى الأطروحة القائلة «إن الأمم قد انبثقت عن إثنيات شكلت الأساطير والرموز أولى عناصرها المكوِّنة للهوية القومية».

بيد أن أبرز جدال نلفيه بشأن مفهوم الأمة هو ذلك المتعلق بموقفي كل من الفيلسوف الألماني هردر، والفرنسي أرنست رينان، حيث ينطلق هردر من تصور عضوي للأمة يرى أنه من الواجب أن تتأسّس الأمة من مجموعة بشرية تتقاسم ثقافة واحدة قائمة على اللسان المشترك، أكثر مما هي قائمة على الدين، أو العرق، وقد وسّع الفيلسوف فيخته من هذا المعنى القائم على التصور الإثني- اللغوي الذي ينظر إلى الأمة كتأسيس يتم من القاعدة نحو القمة؛ وذلك بعكس التصور الفرنسي الذي دافع عنه رينان، والقائم على سيرورة بناء الأمة من أعلى الهرم اعتماداً على الدولة، وصولاً إلى القاعدة، ويرفض التصور الإثني - اللغوي الألماني.

ويعود هنري بينا رويز للدفاع عن التصور المنفتح للأمة والرافض لكل المقولات المتعلقة بالصراع بين الثقافات، لأن الأمة القائمة على الحرية والفصل بين الدين والدولة وعلى المساواة والأخوة يمكنها أن توحِّد المجموعات السكانية، وأن تحقق ازدهارها.

ويمكن القول إنه ورغم اختلاف التصورات المتعلقة بالأمة والدولة القومية المعاصرة، فإن هناك نقاطاً مشتركة بين مختلف كل هذه التصورات تشير في مجملها إلى ضرورة انفتاح المكوِّنات الهوياتية والثقافية واستنادها إلى حرية المعتقد الأمر الذي يجعل الخصوصيات اللسانية أكثر أهمية من الخصوصيات الدينية، كما أن هذه الخصوصيات لا يمكن بأي حال من الأحول توظيفها لإقصاء الآخر، ولا يجب من ثمة معارضة ممارسات أو مبادئ لمجرد أنها «ليست من عندنا»، ولكن لكونها تتنافى مع القانون الذي يمثل القاسم المشترك داخل الدولة - الأمة التي لا تربطها صلة قوية بالجماعة الدينية، والمسألة تتعلق في المحصلة بالحقوق الكونية للكائن البشري وفق ما تدعو إليه الليبرالية التي تطالب - حسب برتراند بادي - بأن تُمنح للشخص استقلاليته، وأن يُسمح له بالتحرّر من الوفاء المطلق للأمة، مع الحفاظ على انفتاح المجتمع، والاعتراف بضرورة الإبقاء على فكرة الأمة الجامعة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"