التكفير في عصر العولمة

23:04 مساء
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

منذ سنوات عملت مراكز بحثية وأكاديمية وأجهزة استخبارات عديدة على تحليل طرق تجنيد المنظمات التكفيرية الإرهابية لأعداد كبيرة من الشباب الذين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، فقد استفادت هذه المنظمات من الإمكانات الكبيرة التي أتاحتها العولمة في مجالات الاتصال الرقمي، خصوصاً شبكات التواصل الاجتماعي التي تخترق الحدود والثقافات.

مؤخراً، أطل الإرهاب من جديد على أوروبا، في فرنسا والنمسا، وقد سبقت العمليات الإرهابية، وواكبتها، موجة من خطاب التكفير والكراهية على منصات التواصل الاجتماعي، بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ما سماه «أزمة الإسلام»، وعلى الرغم من أن توصيف ماكرون جاء في سياق فرنسي، ولا يخلو من أغراض انتخابية محضة، فإن قسماً كبيراً من ردود الأفعال جاء ليكشف عن استثمار واضح لقوى الإسلام السياسي بشكل عام، والقوى التكفيرية بشكل خاص، وقد حملت ردود الفعل هذه كل سمات الخطاب التكفيري، ولغته التحريضية العنيفة.

يستخدم الخطاب التكفيري «الإسلاموي» أيديولوجيا تتأسس على المظلومية، حيث يقوم بتصوير أزمات الشعوب العربية والإسلامية، والأقليات العربية والإسلامية الموجودة في الغرب، على أنها نابعة من كراهية الغرب/المسيحي للعرب والمسلمين، وهذا الخطاب التعميمي لا يتضمن أي تحليل منهجي فكري أو علمي لسياق التطور التاريخي العالمي، ولا يغوص في تركيبة وسياق التطور التاريخي للشعوب العربية والإسلامية، من حيث بناها الإنتاجية والاجتماعية، أو تركيبة أنظمتها السياسية، أو مستويات التعليم ومناهجها، والأسباب الحقيقة التي كانت وراء نشوء موجات متتالية من اللجوء إلى أوروبا، ومن بينها؛ بل في مقدمتها الحروب الأهلية والطائفية التي شهدتها بعض الدول في آسيا وإفريقيا.

واحدة من السمات البارزة لهذا الخطاب التكفيري هي سعيه إلى العالمية، وإنشاء شبكات تابعة له في عدد كبير من الدول، مع تطوير إمكانيات لا يستهان بها على المستوى التكنولوجي/المعلوماتي، وبناء شبكة مصالح مع عدد من الجهات في عملية استثمار وتبادل للإمكانيات والمصالح، حيث أظهرت العولمة مدى التداخل بين قضايا العالم، ولجوء بعض الدول إلى توظيف التنظيمات الإرهابية لخدمة أهدافها، أو جعلها أدوات للضغط على دول أخرى، وهو ما ظهر بشكل واضح في السنوات القليلة الماضية، في عدد من ساحات الصراع، كما في العراق وسوريا وليبيا.

في هذا السعي نحو العالمية، لا يمتلك الخطاب التكفيري أية أهداف سياسية محددة؛ إذ لا يمكن أن يكون لقوى من هذا النوع، أي تصورات سياسية عالمية محددة، على غرار أيديولوجيات أخرى، مثل القومية والليبرالية والاشتراكية، فهي من حيث المبدأ تتناقض تاريخياً وحضارياً مع الأيديولوجيات الحديثة، ومع الأنظمة السياسية التي تشكلت في سياقها، فقد حددت القوى التكفيرية أجندة أهدافها انطلاقاً من بوصلة ماضوية لا علاقة تربطها بالحاضر. فهي تجد أن ما أنتجته الحضارة الحديثة مخالفاً لتصوراتها العقائدية، وبالتالي لشكل الحياة والحقوق والواجبات التي ترسّخت عبر نضالات المجتمعات والدول والحديثة. 

تحاول القوى التكفيرية حشد تأييد واسع لأفكارها في منصات التواصل الاجتماعي، من خلال إدخال الدين كطرف في مختلف أوجه النقاش الاجتماعي أو السياسي، وتقسيم الناس على أساس «مؤمنين» و«كفار»، واحتكار الحقيقة في تفسير النصوص الدينية، وتحويل مسارات الصراعات لتبدو كأنها صراعات دينية أو مذهبية، مُسقطة عنها أبعادها الواقعية الحقيقية. وهذه الطريقة هي الأكثر مواءمة لتحريك مشاعر أعداد لا يستهان بها من جمهور المنصات الافتراضية، خصوصاً ممن لا يمتلكون القدرة والكفاءة على تحليل الأحداث والظواهر، أو ممن يعانون حالات من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وإظهار أن تهميشهم وراءه قوى معادية للدين.

حركة التكفير في عصر العولمة لها مخاطر كثيرة، والمتضرر الأول والأكبر منها هي المجتمعات العربية والإسلامية، حيث تصبح هذه الدول ساحة للصراع المجتمعي على أسس دينية ومذهبية، ليس بالإمكان الخروج منها أو معالجة آثارها إلا بعد سنوات أو عقود، وبعد هدر كثير من الدماء والإمكانات المادية والعمرانية والحضارية، وهو ما حصل ولا يزال في عدد من الدول، حيث تقف القوى التكفيرية، إلى جانب عدد من الأسباب الأخرى الجذرية، حجر عثرة في استعادة الدول التي عانت صراعات دينية لمكانتها ودورها، كما أن هذه القوى تمنح اليمين المتشدد في أوروبا فرصة لزيادة نفوذه السياسي، عبر استثمار الحوادث الإرهابية لرفع منسوب التشدد القانوني بحق اللاجئين العرب والمسلمين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"