يزيّفون تاريخنا ونحن نتفرج

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

قالوا لنا إن التاريخ يكتبه الأقوياء، ويسطر صفحات حروبه المنتصرون، ويزيّف حقائقه المستعمرون، ولم يكن أمامنا سوى أن نرضى صاغرين. وقالوا إن الإعلام يتحكم فيه الكبار، ويرسم سياساته أباطرة المال، ويُملي إرادته عليه القادرون على الوجود في كل مكان حول العالم، وفرض منتجهم على كل الكوكب. وارتضت العديد من وسائل الإعلام في معظم دول العالم، أن تعتمد على الروايات الإخبارية لوكالات أنباء لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، بصرف النظر عن فقدانها للحيادية وانحيازها الذي لا يخفى على أحد.

في السينما أيضاً لم يكن الحال مختلفاً، وشاهدنا البطل الأمريكي مفتول العضلات وصاحب القدرات الخارقة، يصول ويجول في عواصم الدنيا خاطفاً قلوب «الصبايا»، شاغلاً عقول الشباب، مثيراً نقمة الكبار بادعائه أنه منقذ العالم من المارقين على الأرض، والقادمين من الفضاء لاستعمار الكوكب.

اليوم تغيرت ملامح الحياة، وتبدلت أدوات التواصل الإنساني، وأصبحت للشبكة العنكبوتية بتطبيقاتها المختلفة، الكلمة، والصوت الأعلى، في بناء الجسور بين أبناء الكوكب، ونجحت في تحويل الأرض إلى قرية صغيرة، لا تخفى فيها حقيقة ولا يستغرق وصول خبر من أقصاها إلى أقصاها ثواني، ويمتلك الكبار الشبكة وعمالقة البحث، ومواقع التواصل، وكبريات التطبيقات، ويُحكمون من خلالها القبضة على أنفاس البشر بعد أن اتخذتها أجهزتهم وسيلة لمعرفة دبة النملة في أي مكان، وهو ما يكاد يقضي على خصوصية الشعوب والأفراد، ولأننا عاجزين عن أن نكون سوى مستهلكين ومستخدمين للشبكة وملحقاتها، ولم يكن أمامنا سوى أن نقبل بتطبيق قانون القطيع علينا، وعلى غيرنا ممن تشابهت ظروفنا وظروفهم. 

قبلنا ما فرض علينا وارتضينا أن نظل مستهلكين عاجزين نشاهد إبداعاتهم وأفواهنا مفتوحة، ونأكل طعامهم، ونستهلك منتجاتهم ونحن ندرك أننا لا نمتلك قرارنا، ولا سيادة لنا، ولكن أن يصل الأمر إلى أن نتركهم يحكون لأولادنا وأحفادنا حكايتنا مع الزمان، ونحن مجرد متفرجين، فهذا يعني أننا فقدنا إرادتنا بالكامل!.

خلال الأيام الماضية قدمت منصة «نتفلكس» فيلماً جديداً يحمل اسم «موصل» عن المدينة العراقية، بعد أن تهدمت وأصبحت تصلح للأشباح لا للبشر، من إنتاج وتأليف وإخراج أمريكي، وما يثير الدهشة هو أنه ناطق باللهجة العراقية، واشترك في تمثيله فنانون من العراق والأردن ومصر وتونس. 

صحيح أن «موصل» هو أول فيلم أمريكي يتناول بطولة فرقة عراقية استطاعت أن تتصدى ل«داعش» وتحرر عائلاتها التي أسرها التنظيم الإرهابي، ولكن المزعج هو أن هذه الرواية وغيرها، ينبغي أن يرويها العراقيون لأولادهم ويوثّقونها لأحفادهم وللتاريخ، لا الأمريكيون.

الأزمات المتلاحقة التي عاشها ولا يزال يعيشها الشعب العراقي منذ 2003، لم يتم إنتاج فيلم عراقي عنها، ولم تستفز لا مبدعاً ولا مموّلاً؛ لأن يقدم لأبناء هذا البلد وللعالم، وجهة نظر عراقية تجاه الكارثة التي تعرضوا لها، ولم تنشغل الشيع والأحزاب والفصائل التي تتصارع على السلطة والثروة، بتسخير الفن السابع للكشف عن أي صفحة من صفحات بطولات العراقيين ضد المحتلين والإرهابيين، وتركوا المهمة للأمريكيين الذين قدموا روايات مختلفة للتاريخ وللعالم عن العراق منذ احتلالهم له، حيث وصل العدد حسب بعض الإحصاءات إلى 40 فيلماً روائياً و6 مسلسلات و50 فيلماً وثائقياً، بينما العراقيون والعرب يكتفون بالمشاهدة والتصفيق ومصمصة الشفاه، وفتح الأفواه أحياناً.

«موصل» هو أول فيلم يتناول بطولة أفراد عراقيين في التصدي ل«داعش» وبذل حياتهم لتحرير مدينتهم وأهلهم من وباء الإرهاب، وهو فيلم سريع الإيقاع ومتماسك البنيان وواضح الرؤية، أما باقي الأفلام سواء الروائية أو الوثائقية أو حتى المسلسلات، فهي عادة ما كانت لتمجيد الأمريكي وتصويره على أنه المنقذ للعراق من الحكم الديكتاتوري، وإرهاب «داعش» والقاعدة وأخواتهما، بينما ظهر العراقي في كثير من الأفلام مشوّه الصورة والشخصية والهدف والطموح، خائناً لوطنه ومنهزماً أو متجاوزاً في حق شركائه في الأرض والمصير. 

وصل الأمر بهوليوود إلى إنتاج فيلم عن حياة قناص أمريكي في العراق، أخرجه كلينت ايستوود، لتمجيد مجرم استهدف كثيراً من العراقيين حتى ولو كان قد قنص بعض الإرهابيين، وقدمه بملامح البطل الإنسان المنقذ  كعادة الأمريكيين  وجاء الرد عليه بفيلم قصير عن القناص العراقي البطل «جوبا» الذي اغتاله الأمريكيون، ومن الطبيعي أن الفيلم الأمريكي صال وجال في دور السينما العالمية. أما العراقي فقد تم عرضه على استحياء في إحدى القنوات الإخبارية.

حرب العراق واحتلاله وأزماته المتلاحقة تستحق أن يرويها العراقيون والعرب، لا غيرهم، للأجيال القادمة، وتاريخنا فيه كثير من الصفحات والشخصيات والأحداث التي يجب ألا نتركها لغيرنا ليرويها بطريقته، ويشوِّهها ويزيّفها ونحن نتفرج.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"