الطائفية والفساد في لبنان

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

ليست الطائفية سبباً مباشراً، أو غير مباشر، للفساد في الدول، لكن في دولة تعج بهذا الكم من الفساد مثل لبنان، تكون الطائفية إحدى الدروع الأساسية لحماية الفساد ونهب الدولة.

 وفي النظام الرسمي العربي ليس هناك من دولة عربية تعتمد المحاصصة الطائفية في دستورها وقوانينها مثل لبنان. وإذا كان من نظام يشبه النظام اللبناني إلى حد ما، فهو العراق الذي يعاني من توغل النزعات الطائفية والعرقية في تفاصيل جسده المريض والمنهوب.

 عندما ظهر لبنان بشكله الجديد والحالي في عام 1920 وكان يسمى «كبيراً»، كان الأمل معقوداً على الدولة الفرنسية بأن تهذّب نزاعاته، وتعمل على الألفة بين مجموعاته، باعتبار أن فرنسا اعتمدت منذ أواخر القرن الثامن عشر، ورسمياً منذ العام 1905، النظام العلماني لترتاح نهائياً من الصراعات الدينية التي فتكت بالمجتمع الفرنسي، وبالمجتمعات الأوروبية على امتداد القرون الوسطى، وإلى حينه.

 لكن ترجمات اتفاقية «سايكس- بيكو» كانت من جانبها الفرنسي، وفي لبنان تحديداً، نظاماً طائفياً من قمة الرأس حتى أخمص القدمين. وقد تعجب الجميع من ذلك. وبدلاً من تهذيب القائم، سارعت فرنسا إلى ترسيخه، ولا سيما مع سنوات الانتداب. حتى إذا أطل عام 1943، أي عام الاستقلال الوطني الميمون، كانت الطائفية محصلة لقاء رئيس الجمهورية بشارة الخوري، ورئيس الحكومة رياض الصلح، اللذين أنتجا ما يسمى ب«ميثاق 1943» الذي أخضع الصيغة اللبنانية الفريدة والعقيمة لثوابته التي أقل ما يقال فيها أنها حمّالة أزمات وحروب أهلية، أولاها عام 1958، وثانيتها وآخرها عام 1975 التي استمرت خمسة عشر عاماً، بالتمام والكمال، حتى إذا انتهت الحروب الداخلية المدعومة خارجياً باتفاق الطائف، تنفس اللبنانيون الصعداء.

 والطائف، كما هو معروف، هي المدينة السعودية التي اجتمع فيها الزعماء اللبنانيون عبر نوابهم، وألزموا بالتوصل إلى اتفاق أصبح من صلب الدستور اللبناني الجديد. 

 رحّب الجميع باتفاق الطائف باعتبار أنه قام بوظيفة مهمة، وهي إنهاء الحرب الأهلية - الخارجية المديدة. وكان الاتفاق في ذلك «فاعل خير»، لكنه ألحق باللبنانيين أفدح الأذى بممتلكاتهم وأرواحهم وأموالهم ومستقبلهم.

 رسّخ الطائف، كتابة هذه المرة واتفاقاً معلوماً وعلنياً، المحاصصة الطائفية التي ارتّدت على اللبنانيين في عالم بات كله متعلماً ومتمولاً ومنظماً وقائماً على المؤسسات، إلا لبنان قام على منظومة غريبة وعجيبة وقاتلة، تمثلت في منظومة الفساد الطائفي، أو الطائفية الفاسدة. ضرب الزعماء اللبنانيون عرض الحائط بكل ما يمكن أن يكون أساساً لبناء دولة حديثة مدنية شفافة. وبدلاً من التناغم والتعاطف مع مهولات الحرب والعمل على الخروج من مآسيها، إذا بهؤلاء الزعماء يستمرون وفق نظام «عالسكين يا بطيخ»، فإذا كان الأساس هو المحاصصة وتقاسم النفوذ وحلب الدولة على أساس زبائني وطائفي، فإن جميع المسؤولين، ومن هنا شعار «كلن يعني كلن»، كانوا شركاء متضامنين في نهش جسم الدولة ومواردها المالية. أما ما كان يظهر في بعض المراحل بعد الطائف على أنه بحبوحة فلم يكن سوى سرقة منظمة، وتدمير للدولة، حتى إذا لم يعد في قاع الدولة ما ينهبونه امتدت أيديهم إلى أموال الناس في المصارف فسرقوها بالتكافل والتضامن بين مختلف القطاعات السياسية والمالية والقضائية والأمنية، فكان الانهيار الكبير في خريف 2019 الذي لا يزال مستمراً حتى الآن، بفضل انعدام الرحمة، ولو في حدها الأدنى، فطار أكثر من تسعين في المئة من قيمة الرواتب، وحجزت المدخرات، وبات في الأرقام الرسمية، أكثر من تسعين في المئة أيضاً من اللبنانيين تحت خط الفقر.

 انتهى عهد الأكذوبة الاقتصادية والنظام الذي لا علاقة له بالنظام الحر في شيء. ومع ذلك لا يزال النظام الفاسد يتمسك بطائفية بغيضة. لقد انهار كل شيء، ولا تزال منظومة «الطائفية – الفساد» تمسك بخناق اللبنانيين، وسوف تمسك أيضاً بخناق الكيان إذا لم يتم التوصل إلى عقد اجتماعي- سياسي- اقتصادي جديد، يؤمّن العدالة والشفافية واللاطائفية والإنتاج، ويأخذ العِبر مما جرى، وإلا فعلى ما تبقى من لبنان، المجتمعات والكيان.. السلام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"