عادي

«ألم المعرفة».. تطهير للنفس بالإيثار

00:39 صباحا
قراءة 4 دقائق
1604

تظل النفس البشرية مشغولة بحب نعيم الدنيا وملذاتها، لا يزجرها عن ذلك شيء، إلى أن يحدث الله أمراً يقلب حياة المرء رأساً على عقب، إنه النداء الذي يشكل منعطفاً جديداً في مسار الإنسان، فيرشده إلى طريق مستقيم من المحبة والصلاح، حينها يكون هم المرء أن يتخلص من الخطايا وينقي النفس من أدرانها التي علقت بها، في رحلة خالصة إلى رب العالمين، ليصبح زاد السبيل هو الزهد من أي شيء إلا محبة الله تعالى، وترك كل شيء إلا حبله المتين، حينها تتنزل عليه البركات السماوية والمدد الروحي وفيوضات من المعارف.

يبدو أن اللجوء إلى كتابة الروايات التي تستلهم الأدب والتراث الروحي، قد أصبح موضة، فهي لا تشغل فقط بال الكتاب العرب الذين يستندون إلى إرث عظيم وهو التصوف، فمن الواضح أن الإحساس بالغربة والتراجع والخوف من التشدد وصعود الإيديولوجيات والصراعات والحروب، جعل الإبداع الروحي ينتشر وكأنه ترياق ضد جنون العالم، بحثاً عن السلام والتسامح والتصالح مع الذات، وقد وجدت رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركية أليف شافاك، تناولاً كبيراً في كل العالم، لدرجة أن الكاتبة البريطانية مورل مفروي قامت بنسج عمل على المنوال نفسه حمل عنوان «بنت مولانا»؛ بل صارت الروايات العربية التي تحمل نزعة صوفية تترجم إلى لغات عالمية مختلفة، ولاشك في أن الإرث الروحي الصوفي هو منهل عظيم يدل على أن التاريخ لا يموت، لذلك فإن رموز وأقطاب التصوف يتجولون بيننا في عصرنا الراهن يحملون راية الحب والتسامح، حيث تقوم كثير من الأعمال السردية باستدعاء تلك الشخصيات المؤثرة.

أثر عظيم

من الأعمال التي وجدت صدى كبيراً، رواية «الجنيد.. ألم المعرفة»، للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة، والتي ترجمت مؤخراً للغات عدة، وتتناول حياة وخطب ومقالات الشيخ الجُنيد بن محمد النهاوندي البغدادي، المولود في بغداد في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. والرواية تتابع ذلك الأثر العظيم لذلك المحب الذي أفنى حياته في التقرب من الله تعالى، حيث أخذته المعرفة بعيداً عن دنيا البشر، لكنها قربته إلى طريق رب العالمين الذي سلكه بالزهد والتواضع وتهذيب النفس وتطويعها من أجل تلقي المدد. ومن المواضيع المهمة التي تابعها السرد وألقى عليها ضوءاً كثيفاً، تلك المتعلقة باعتدال الجنيد في تصوفه، فكان يقول: «علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم».

اشتهر الجنيد بالعلم وكثرة المعارف حتى لقب بـ«سلطان العارفين»، و«تاج العارفين»، ولعل ذلك اللقب الصوفي الرفيع هو الذي قاد المؤلف نحو أهم الميادين التي تفرد بها الجنيد بين علماء عصره لدرجة أن توّجوه بذلك اللقب. وبطبيعة الحال، فإن المعارف المقصودة هي التي يحملها الفيض والمدد الروحي.

جوهر التجربة

الرواية تركز كذلك على المحبة كطريق اتبعه الجنيد، فقد عمل على تأسيس مرجعية قوامُها الحب والمعرفة والإيثار، فذلك هو جوهر التجربة الصوفية التي هي في أصلها مسار عاطفي وجداني يبتغي تطهير النفس والسمو بها. وتُكثر الرواية من الاستشهادات والاقتباسات المتعلقة بذلك الجانب، ومنها ذلك المشهد الحواري بين الجنيد وأحد تلاميذه:

«فقال حائراً: كيف تفهم المحبة؟

فقلت: المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك.

فقال: أليس الميل نقصاً؟.

فقلت: من الميل ما يكون كمالاً، فإن وقفت مع نفسك ولم تمل لمحبوبك، فلا تطمع في المحبة، وأقنع بأن تبقى على الأبواب، فمقامك دون الأعتاب».

الخطيب المفوّه

الرواية تتوقف أيضاً عند فن الخطابة الذي عرف الجنيد بإجادته، فقد اشتهر بأسلوبه البديع في ذلك الميدان الذي يعد من أميز فرسانه، فقد كان شديد التأثير في قلوب الناس، فما أن يعتلي المنبر أو يبدأ في إلقاء خطبة حتى يجد ألف أذن صاغية، وكان يحدثهم بضرورة تهذيب النفس والزهد وتجنب المعاصي وترك الشهوات والتحلي بالصفات والأخلاق النبيلة، والاستعداد للسير في طريق الله تعالى، حتى صارت أقواله تردد إلى يومنا هذا، ومنها قوله: «واحذر الحسرة عند نزول السكرة، فإن الموت آتٍ وقد مات قبلك من مات»، وكذلك قوله محرضاً على الزهد وترك الكبر كشرط أساسي لتهيئة النفس لتلقي المدد والأنوار: «أعلم يا ابن آدم أن طلب الآخرة أمر عظيم لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك، فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، وأخلِص عملك، وإذا أصبحت فانتظر الموت، وإذا أمسيت فكن على ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء».

ويركز العمل كذلك، على الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية التي ظهر فيها الجنيد، فقد برز في وقت سادت فيه صراعات فكرية متباينة، وقد شهد محاكمة الحلّاج. ولئن كان هناك اختلاف بين طريقة الرجلين في التصوف، فإن المحاكمة تشير إلى المضايقات الكثيرة التي كان يجدها المتصوفة. والرواية تتناول كذلك محاكمة أحمد بن حنبل، ومحاكمة سمنون المحب، وتكشف المواقف الحقيقية التي تكمن وراء تلك المحاكمات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"