عادي
أثر القلب

«شوق الدرويش».. مناجاة في مقام الوجد

00:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
2004
gallery_1238188331

الشارقة: علاء الدين محمود

يقول سمنون المحب «أصل الطريق إلى الله تعالى والقاعدة فيه، إنما هي المحبة، وغير المحبة إنما هو هباء منثور»، تلك الكلمات تختصر كل تجربة روحية لعابد وزاهد اختار طريق التقرب من الله تعالى، حيث لا يبقى في نفسه شيء غير المحبة، يصبح المرء المؤمن حينها عاشقاً متبتلاً تاركاً لملذات الدنيا، لا تغريه المناصب ولا الثروات، وهو طريق صعب يتطلب من السالك أن يهذب نفسه ويجاهدها من أجل إدراك أعلى المراتب والدرجات في التقرّب من الله عز وجل.

في رواية «شوق الدرويش» لحمور زيادة، تسطع ألوان المحبة، ويستريح القارئ بقرب حكايات وقصص تفيض بمعاني العشق والحنين، فأحداث الرواية تتمدد في فضاء نهايات ما عرف في السودان باسم الثورة المهدية في القرن التاسع عشر، قام بها رجل تربى هو الآخر في بيئة صوفية حارب الأتراك والإنجليز، وادعى أنه جاء ليملأ الأرض عدلا ومحبة وسلاما، بعد أن ملئت جورا وظلما وكفرا، بالتالي يلتقي في العمل مناخان، الأول هو اليوتوبيا الحالمة، والثاني هو المناخ الصوفي الذي يهيمن على أجواء الرواية بكل ما فيه من واقع ومتخيل وشطح، فالسودان في كل جهاته الأربع محتشد بقصص الأولياء والصالحين وكراماتهم، بالتالي فإن العمل يتمثل في القيم التي سادت في السودان في تلك المرحلة.

تجربة فريدة

تحكي الرواية، التي تستهل بعبارة لابن عربي: «كل شوق يسكن باللقاء، لا يعوّل عليه»، عن قصة حب شائكة ومعقدة ومستحيلة، تلك التي يخوض غمارها الصعب بطل العمل وهو شاب يدعى بخيت منديل، والذي أطلق سراحه من السجن بعد فترة طويلة ومؤلمة قضاها في المعتقل، وعانى فيها الأسر والاستغلال، وتترافق فترة إطلاق سراحه مع دخول القوات الإنجليزية إلى السودان وتلقينها الدولة المهدية هزيمة فادحة مدوية أسقطتها وأدت لهرب جماعة المهدى، وفي تلك الأجواء يقع بخيت في حب فتاة مسيحية كانت قد جاءت مع البعثة الأرثوذكسية إلى الخرطوم، وهي من أصول يونانية نشأت في مدينة الإسكندرية اسمها ثيودورا، ولكن عندما دخل جيش المهدي إلى العاصمة الخرطوم وأخرج منها الإنجليز والأتراك، وقعت ثيودورا في الأسر، وأصبحت خادمة لدى أحد التجار الكبار وأطلق عليها اسم حواء، ولكنها لا تقبل بالعبودية أبداً، وتحاول الهرب من عند سيدها غير أن بعض الأتباع يلقون القبض عليها ويقتلونها، ليعيش بخيت تفاصيل مأساة حقيقية، فيسعى نحو الانتقام ويتعرض للأسر ثانية، وشيئاً فشيئاً يتوجه نحو ابراء جراحه بخوض تجربة روحية فريدة.

لعل المتعة الأكبر التي يجدها القارئ في الرواية هي تلك اللغة الشاعرية الجميلة الجذابة، والتي تحاول أن تقترب من لغة الصوفيين، فتشيد أشكالاً من المقاطع والأقوال التي تجري على ألسنة الرواي وأبطال العمل وشخوصه المختلفين، يتحدثون بلغة مختلفة، تستجلي خبابا الوجود وأسراره، وبصورة خاصة الأقوال التي تخرج من بطل العمل بخيت، فالطامة الكبرى بالنسبة له، لا تتمثل فقط في سجنه أو وقوعه في أسر الاستعباد، أو ما لقيه في حياته من عنت وقسوة، بل المأساة الحقيقية التي عاشها بطلنا هو أنه قد خاض تجربة حب محكوم عليها بالفشل، لأسباب متعلقة باختلاف الأعراق والأديان والثقافات، وهذه المأساة العظيمة عبر عنها خير تعبير في أحاديثه التي يلقيها في لحظات شقاء عظيم، ومن ذلك قوله وهو يخاطب حواء في مشهد يتخيله: «لقد عشت حيوات كثيرة يا حواء، أكثر مما أتحمله، ربما ما عشت طويلا، لكني عشت كثيراً، وما وجدت حياة أحلى من التي كانت أنتِ، فقط لو أنك أحببتني! لكنى لا ألومك، لقد تعلمت في حياة عشتها أن الحب كالقدر، لا تملك من أمره شيئاً»، وكذلك تخرج منه الحكمة ملخصة لدروسه من تجربة العشق التي خاضها، كقوله: «لا تحب بعنف لأنك ستتألم بعنف، لا تحب كي تخرج سالماً لا لك ولا عليك»، فالرواية هي حشد من مثل تلك المقاطع اللفظية التي تنهل من قاموس مفردات وألفاظ التصوف.

ولعل القارئ الحصيف يلمح تأثر الكاتب بالأجواء والمناخات التي حملتها بعض أعمال الكاتب الطيب صالح، مثل روايته «عرس الزين»، «مريود»، وهي الأعمال التي تحاكي اللغة الصوفية داخل بنية النص الروائي من خلال أقوال الشيوخ والمريدين.

عذوبة الألفاظ

«شوق الدرويش»، عمل سردي جيد، يأخذ من الخطاب الصوفي تقنيته اللغوية، تلك اللغة التي تفيض سحرا ليس لعذوبة ألفاظها وإنما لغموضها، الذي يجعل القارئ في حيرة من أمره في الكثير منعطفات السرد، وذلك لأن مثل هذه اللغة تنهض على أسلوب الإشارة والرمز، فالرواية في حقيقتها نص يزدان بالمقاطع والمفردات والأجواء والأحداث الصوفية، إضافة إلى احتشاد العمل بالآيات القرآنية، فالقارئ يطالع صورا ومشاهدا للمجتمع السوداني في تلك الحقبة، ويكاد الوصف أن يأخذ المتلقي في جولة يشاهد فيها القباب والزوايا لكبار المتصوفة السودانيين، وكذلك مشاهد الدراويش بملابسهم الخضراء المرقعة وهم يتجولون في الأسواق والأحياء، قلوبهم عامرة بالمحبة، وأفواههم لا تكاد تتوقف عن ذكر الله تعالى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"