عادي
أثر القلب

«الأطلسي التائه».. قلب المؤمن يتعلق بالسماء

00:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
2301

العابد المؤمن في سفر طويل ومستمر، يتنقل بين الأمكنة، من بلاد إلى أخرى، لا يكاد يلقي عصاه في مكان إلا ليلتقطها قاصداً جهة جديدة، ذلك هو ظاهر الأمر، لكن جوهره هو سفر إلى السماء، هو تقرب من الله تعالى، تلك هي رحلة الشوق للمشوق، وفي كل سير الصوفيين، نجد الإشارة إلى الترحال كشيء لابد منه في حياة السالك، فهو يكتشف فيه الوجود، وعظائم قدرة الله التي تتجلى في مخلوقاته، ويغوص كذلك في أعماق نفسه من أجل أن يطهرها، ويهذبها، ويهيئها لتلقي أنوار المحبة والمعارف.

في روايته «الأطلسي التائه»، يلقي الكاتب المغربي مصطفى لغتيري، الضوء على مفهوم الرحلة عند الصوفيين، من خلال تناول حياة أحد أشهر رجال التصوف في المغرب، وهو أبو اليعزى الهسكوري، الذي اشتهر في تلك البلاد باسم «مولاي بو عزة»، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي.

سيرة

وتكمن أهمية العمل في كونه يتناول سيرة وحياة صوفي غير معروف في المشرق العربي، حيث لم تتجاوز شهرته بلاد المغرب، لذلك يبدو واضحاً أن هنالك جهداً بحثياً كبيراً قد تم من قبل المؤلف، فقد استطاع أن يجمع قدراً من المعلومات عن ذلك الرجل الذي شغل الناس كثيراً فأحبّوه، وحفظوا سيرته في قلوبهم، رغم أنه كان رجلاً بسيطاً، أراد أن يقضي حياته تلميذاً وطالباً للعلم، فكان أن تنقل في العديد من قرى ومدن المغرب بحثاً عن معلمي الفقه وأصول الدين والتصوف، ليتلقى العلم على أياديهم. والعمل يركز بصورة كبيرة على تلك الرحلة، ويبدو ذلك واضحاً في دلالة العنوان «الأطلسي التائه»، فالتيه يشير إلى أن الرجل قضى عمره كله ضارباً في الأرض في سفر دائم، من أجل الحقائق والمعارف، لقي خلالها الكثير من صنوف البشر، وصادف العجائب والغرائب، لذلك يزخر العمل بالكثير من المعلومات المروية من خلال تنقل الهسكوري بين مدن وبراري المغرب، ومن خلال المتعبّدين والنسّاك الذين يلتقي بهم، ويزودونه بطريق المعرفة الذي يصفه بغير المحدود، فهو يقول: «إن الله وحده قادر على أن يلقي بنوره على من يشاء من عباده».

بداية الطريق

تلقي الرواية الضوء على العصر الذي عاش فيه الهسكوري، في فترة مهمة شكلت منعطفاً في تاريخ المغرب، وهي الحقبة التي شهدت انتفاضة الموحدين ضد دولة المرابطين، والصراع الذي نشأ على الحكم والذي دام فترة طويلة، وانتهى بانتقال السلطة إلى دولة الموحّدين، وفي ذلك الوقت كان الهسكوري يافعاً، وكان حينها يعمل راعياً للأغنام عند الشريف الشرقاوي، حيث تنشأ علاقة حب بين الهسكوري، وابنة الشريف «لالا فاطمة»، ويتعرف كذلك إلى صديقه إبراهيم، الذي كان منخرطاً في الانتفاضة والنشاط الثوري، وكان يحدّث الهسكوري بأحاديث السياسة، وينقل له أخبارها في ذلك الوقت الذي شهد وفاة أمير المسلمين أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، وانتقال الحكم إلى ابنه، لكن فاجعة تلم بالهسكوري، وتغير من حياته تماماً، المتمثلة في مقتل صديقه إبراهيم، وحبيبته «لالا فاطمة»، على يد المرابطين الذين هاجموا منزل والدها ورموه بالنار، لأنهم علموا أنه يؤوي مناوئين لهم، وكان لذلك الحادث مفعوله في قلب الهسكوري، حيث شكّل منعطفاً كبيراً في حياته، ودفعه نحو طريق التصوف، ليصبح واحداً من أشهر المحبين والسالكين في المغرب.

العمل جاء بلسان الراوي، وهو الهسكوري نفسه، الذي يتحدث عن حياته منذ الطفولة التي عانى فيها سلطة الأب القاسية، لكنه تعلم من قسوة والده الصلابة والتحدي، غير أنه كان يميل جهة أمه العطوفة الحنونة، والتي تأثر بها، حيث علّمته حب العمل والتفاني في خدمة الآخرين، وكذلك تعرف من جدته إلى أنواع النباتات والأعشاب واستخداماتها الطبية، تلك الأشياء التي أفادته في الحياة، وكذلك في رحلته، والتي وإن كانت في الأرض إلا أنها كانت تقصد السماء.

جماليات الوصف

تتجلى جماليات الرواية في ذلك الاستهلال البديع للعمل، وهو الذي جاء على لسان الراوي واصفاً لنفسه صفاته الجسدية، إذ يقول: «في غفلة مني ومن جميع الناس من حولي، اختطفني الطول فجأة، وطوّح بي نحو المجهول، في كل نهار وليلة، أنمو باطراد ملحوظ، حتى بززتُ أقراني طولاً، وأصبحت لا أعرف إلا به بين الناس، فينادونني (أبو يعزا الطويل)، فأنا من بعيد، أبدو كنخلة سامقة تتطلع بافتتان نحو زرقة السماء مترامية الأطراف، وبفعل هبّات الريح المتوالية، يتمايل سعفها ذات اليمين وذات الشمال، فلا يزيد النخلة غير خيلاء بالذات». وإضافة لجماليات الوصف، يكشف الحديث عن ذلك الميل الذي يعتمل في نفس الهسكوري، مذ كان صغيراً، لبلوغ السماء، فمنذ طفولته تكونت في دواخله محبة الله تعالى، وما رحلته تلك إلا من أجل المعارف التي تقرّبه إلى رب العالمين.

العمل كتب بإتقان شديد، فقد جاءت لغة السرد جميلة ومحكمة ومباشرة وبسيطة ومستساغة وبأسلوب أقرب إلى ذلك المستخدم في كتابة الحكاية التراثية، والتي تنهض في سردياتها على المقدمة، والراوي، والحبكة المميزة ثم النهاية العادية، وجاء الوصف ليكون أحد العوامل المهمة في نجاح العمل، حيث صنع الكاتب الكثير من الصور والمشاهد البديعة، كما أن الرواية احتشدت بالأفكار المرتبة والتي عرضت بطريقة لطيفة تحترم عقل القارئ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"