نتعلم الكثير من الصين

23:39 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة*
مع العيد المئة لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، لا نبالغ إذا قلنا إن الصين هي الاقتصاد الأنجح في العالم. ربما تختلف الآراء حول الطرق والسياسات والخطاب الديموقراطي والحريات وغيرها، لكن الجميع يعترف للصين بالتفوق. قال «هنري كيسينجر» في كتابه عن الصين: إن مشكلتها هي أنها تقع بين قوتين كبيرتين أمريكية وروسية، وبالتالي عليها مراقبتهما سوياً وربما مواجهتهما. طبعاً ليست روسيا اليوم قوية كما كان الاتحاد السوفييتي، لكنها تبقى قوة عسكرية استخباراتية ضخمة. هنالك فارق بين الطريقتين الأمريكية والصينية في العمل على الأرض. للصين دائماً نظرة شاملة إلى الأوضاع لأنها تدرك ارتباط الأمور بعضها ببعض. أما أمريكا فتعالج عموماً كل مشكلة على حدة أو كما يقول بعض السياسيين «على القطعة».
أمريكا تريد تصدير ثقافتها وقيمها، بينما الصين تكتفي بتقوية نفسها وتحصر نفوذها عملياً في آسيا. الصين القوية في آسيا هي أيضاً قوية عالمياً. المنافسة مع روسيا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها ليست سهلة ويجب التركيز عليها. ترفض الصين أن تتشكل قوة كبرى على حدودها تهدد أمنها. تفضل الصين أن تكون دول الجوار مقسمة سياسياً لكن مستقلة، ولا تريدها تحت سيطرة بيكين المباشرة. تكتفي الصين عموماً بما لها وليست لها طموحات خارجية في الأرض، لكنها ترفض في نفس الوقت الاعتداء على أراضيها. لا تعتقد الصين أن لها مصلحة في استيراد النظريات لأن الأفكار الجيدة تنبع منها. لذا لا ضرورة بل لا مصلحة للتعلم من الخارج. تعتقد الصين أن الآخرين سيأتون إليها للتعلم.
تاريخياً ونسبياً كانت الصين قوية جداً. خلال 18 قرناً سابقاً من بين ال 20، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني أكبر من ناتج أي مجتمع غربي. في سنة 1820، أنتجت حوالي 30% من الناتج العالمي أي أكثر من الناتج الأوروبي والأمريكي مجتمعين. ازدهار التجارة الخارجية الصينية هو مؤشر بالنسبة للصينيين إلى التفوق الاقتصادي. أزعج ذلك الرئيس الأمريكي السابق ترامب الذي اعتقد أن العدالة التجارية غائبة ولا بد من التصحيح عبر التعريفات الجمركية. لكن الصين لم تتأثر سلباً بالتعريفات لتنوع صادراتها في السلع والجغرافيا. حاول ترامب أيضاً التضييق على الصين في وسائل التواصل الاجتماعي لكنه لم ينجح لأن الأمريكيين مدركين ومتعلقين بالإنتاج الصيني الجيد الذي يبقي التضخم محدوداً. كذلك اتهامات الرئيس الأمريكي للصين بشأن كورونا وتصديرها لم تلق الصدى الداخلي المطلوب قبل الانتخابات. أتى الرئيس بايدن ليصحح العلاقة ضمن الخشية الأمريكية الواضحة من القوة الصينية المتزايدة. هموم بايدن الخارجية ترتبط بروسيا والصين.
اختلاف المنهجية بين الجبارين يعود حتماً إلى اختلاف التاريخ كما الثقافة. إذا كانت أكثرية المواطنين تعرف مبادئ المنهجية الأمريكية، فهي تجهل في نفس الوقت الطريقة الصينية في العمل. هنالك ضرورة للتعرف أكثر إلى الصين لأنها تلعب دوراً عالمياً كبيراً ومن المرجح أن يصبح أكبر مع الوقت مع تراجع الدورين الأمريكي والروسي. قال «ماو» الزعيم الصيني التاريخي إن الصين والهند يمكنهما أن يكونا صديقين، لكن الواقع لا يشير إلى ذلك وحصلت مؤخراً مواجهات عسكرية على الحدود. المصالح مختلفة وكذلك الثقافة والتاريخ والنظرة إلى العلاقات الدولية أيضاً متباينة.
التعاون الأمريكي الصيني مهم جداً للسلام العالمي والاستقرار الاجتماعي. هنالك مؤشرات عديدة تؤكد على وجود هذا التعاون في كل الأمور ربما باستثناء الاقتصاد والتجارة خصوصاً. ترتكز الصين على عقيدة «كونفوشيوس» الذي قال إن كل الإمبراطوريات بنيت بالقوة لكنها لا تدوم عبر القوة فقط. حتى ماو، بنى قيادته على العقيدتين الماركسية والكونفوشيوسية. على عكس «ماكيافيلي» ركز كونفوشيوس عقيدته على التجانس الاجتماعي لتحقيق التقدم. أما ماكيافيلي، فاعتقد أن القوة هي الحل لفرض الاستقرار. حب التعلم هو الدافع الحقيقي للتقدم في مجتمع مبني على أفكار كونفوشيوس.
الاقتصاد الصيني رأسمالي لكنه يرتكز على قوة القطاع العام عبر الخطط الخمسية وعلى القدرة على التصدير، حيث تبلغ الصادرات 17% من الناتج. الخطة الخمسية المقبلة لفترة 2020 - 2025 ترتكز على تطوير الطاقة والاتصالات كما على الاستثمار في العلوم. حققت الصين نمواً كبيراً وقوياً ومتواصلاً مرتكزة على استثمارات وسياسات دعم القطاع العام وهي من الدول القليلة التي حققت نمواً إيجابياً في 2020 أي 2,3% مقارنة بنمو سلبي لكل من الولايات المتحدة (3,5%) والوحدة الأوروبية (6,6%) واليابان (4,8%). يرتكز الاقتصاد الصيني على سيطرة الدولة على الدورة الاقتصادية وقواعد الدين العام، على فعالية الإدارة وحداثة النظام القانوني التجاري والقضائي كما على عدم فصل القطاعين العام والخاص. حقيقة، تنجح سياسات الرئيس «شي» في إبقاء الصين قوة عظمى رائدة.
من الدروس التي نتعلمها من الصين؛ قدرتها على القبول بأجزاء الحلول. ليس لكل مشكلة حل ولا يحاول الصينيون الدخول في نزاعات حاسمة أي رابح كلي أو خاسر كلي. يؤمن الصينيون بأفكار «سان تسو» في كتابه «فن الحرب» حيث يقول إن الحروب تبنى على العاملين النفسي والسياسي وليس على العسكر والعنف. يعتبر «سان تسو» أنه انتصر في أي حرب عندما يتجنب المواجهة العسكرية أو تصبح غير ضرورية. يفوز بها عبر المراوغة أو الغش أو الإعلام أو التخويف والتهديد ولا ضرورة للعنف. هذه أجدى وأقل تكلفة ولا ضحايا بشرية. للفوز هنالك ضرورة لاستراتيجية حقيقية ولفن المراوغة المبني على علم النفس والحكمة والذكاء. من الأفكار الصينية المهمة أن البحر يشكل فقط حدوداً للأرض، فليس لهم أي مطامع داخله أو علاقة معه. يعتقد الأمريكيون أن الحروب تنتهي قبل أن تبدأ بفضل نفوذ القوة الذي يحقق الانتصار، أي عبر وهج الآلة العسكرية والأمنية التي تجعل الحروب غير ضرورية.
من أهم الأهداف الصينية محاربة التلوث والقضاء عليه قبل سنة 2060. تنتج الصين 27% من التلوث الفحمي العالمي مقارنة ب 10% لأوروبا و8% للولايات المتحدة. مجموع تلوث القوى الثلاث 45% من التلوث العالمي. 60% من إنتاج الكهرباء في الصين يأتي من الفحم ولا بد من تسريع التغيير نحو الطاقات النظيفة لتحقيق أهداف 2060. لذا تحتاج الصين إلى زيادة طاقاتها النووية أكثر وإلى زرع الأشجار وتطوير الغابات لامتصاص الفحم في الهواء. ما يجري من حرائق في غابات العالم مقلق جداً ويضر في اتجاهات عدة ولا بد من مقاومته دولياً. بعد عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقيات المناخ مع الرئيس بايدن، تتوجه أعين العالم إلى سياساته البيئية التي ربما تنقذ الجميع. 
* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"