عادي
قراءات

تاريخ الرأسمالية.. من «فاوست» إلى «ماتريكس»

22:32 مساء
قراءة 3 دقائق
pbnb696xzrry
1601

محمد إسماعيل زاهر

كثيرة هي الأعمال التي تنتقد الرأسمالية في تجلياتها كافة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى البيئية، لكن يندر أن يعثر القارئ على كتاب يمارس ذلك النقد من منظور الأدب والفن، ربما وجدنا كتاباً هنا أو هناك يربط بين روايات «فرانكشتاين» لماري شيلي و «دراكولا» لبرام ستوكر و مشردي تشارلز ديكنز وجاك لندن من جانب وحركة التصنيع الضخمة التي شهدها القرن التاسع عشر من جانب آخر، تلك الحركة التي نتجت عنها حياة قاسية عاناها ملايين البشر.

في كتابه «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي» لوزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، يستمتع القارئ بسرد ينتمي إلى السهل الممتنع، يطالع تلك المصطلحات المضنون بها على غير أهلها مثل: الدين العام والفائدة والفائض والتضخم والقرض..الخ، بعذوبة لا نعثر عليها في أدبيات الاقتصاد أو حتى الاقتصاد السياسي. في الخلفية حزن شفيف يهيمن على السارد نتيجة لأزمة اليونان المالية، 2015، الأمر الذي دفعه ليكشف أخطاء الرأسمالية بأسلوب موجه للجميع، ومنهم ابنته الطالبة التي تدرس في أستراليا، ويرفض أن يواصل البشر الإصغاء في قضايا الاقتصاد الحيوية لأولئك الخبراء الذين لا يعرفون سوى الرطانة، و توجه بوصلتهم المصلحة وقوانين السوق، ويأخذون البشرية معهم نحو الهاوية.

تذكرك الجملة الافتتاحية للكتاب بتلك العبارات التاريخية التي لا تنسى وتتعلق بحقوق الإنسان: «يولد الأطفال جميعاً عراة، لكن بعد ذلك بقليل يرتدي بعضهم ثياباً باهظة أحضرت من أفضل المحال، في حين يرتدي معظمهم ثياباً مهترئة»، ينطلق الكتاب من فكرة «اللامساواة» بين البشر، والعوامل التي رسختها حتى أصبحت «أيديولوجيا ذاتية الاستدامة»، يطرح أسئلة كثيراً ما تداعب عقول الكثيرين منا: لماذا غزا الأوربيون أستراليا وليس العكس؟ ولماذا قامت الثورة الصناعية في انجلترا؟ ولماذا كان العبيد دوماً من إفريقيا؟ ويذهب إلى أن الزراعة لعبت دوراً حاسماً في تاريخ الإنسان، فكما أسست الحضارة فقد خلقت اللامساواة، وأدت إلى تكوين الفائض الذي كان لابد أن ينتج عنه غزو الشعوب الأخرى لترويج المنتجات الزراعية، واستعباد هذه الشعوب لتحقيق مزيد من الفائض والربح، ومن ثم مواصلة الغزو، في دورة جهنمية شكلت الإمبراطوريات، و على خطى هذا التاريخ سارت الرأسمالية، وتحولت الزراعة إلى مصانع يطلق عليها فاروفاكيس «مختبرات التاريخ الرمادية»، لكن الرأسمالية أضافت بصمتها الخاصة والمتمثلة في الإقراض، وسارت على قدمين الهيمنة على الداخل عبر الديون، والسيطرة على الخارج عبر فوائض المنتجات، وصولاً إلى السوق المفتوحة والعولمة، كما أن الرأسمالية غيرت فكرة المال بصورة لم يعرفها البشر من قبل فلم يعد وسيلة لإسعاد البشر، لكنه تحول إلى هدف في حد ذاته.

في الطبعة الأولى من أسطورة فاوست التي عالجها كريستوفر مارلو في القرن السادس عشر انتهت المسرحية ولم يحصل الدكتور فاوست على خلاصه الروحي بسبب علاقته بالشيطان، كانت النهاية تعبر عن رفض شعبي وفكري لبدايات رأسمالية تتناقض مع أخلاق المجتمع، وبعد قرنين ينهي يوهان جوته ملحمته الشعرية «فاوست» بالملائكة وهي تحمل فاوست نفسه إلى الفردوس؛ حيث كانت قيم المسيحية قد استوعبت قوانين السوق، وبعد قرنين آخرين تعلن الرأسمالية عن الوصول إلى عصر الروبوتات، والتي ستستعبد البشر في المستقبل وستحول حياتهم إلى واقع مخيف أشبه بفيلم «الماتريكس».

في الكتاب تحليلات أدبية – اقتصادية مستفيضة لعقدة أوديب، وحكايات جريم، وأوسكار وايلد، وجون شتاينبك، ونقد لاذع لآلاعيب المصرفيين، وكيف يخلقون المال من عدم ويمنحون القروض التي لا يقابلها نقود حقيقية في البنوك؟ وسخرية من ذلك التناقض الصارخ الذي يقع فيه دعاة السوق الحر، فهم يرفضون تدخل الدولة في الاقتصاد في أوقات الازدهار، أما في الأزمات الكبرى فهم أول من يطالبون برقابة حكومية على حركة السوق.

الاقتصاد مجال أهم من أن يترك للخبراء، وخاصة ذلك الفريق المولع بالأرقام والمعادلات الرياضية والمصطلحات الجافة والباردة، ذلك ما ينهي به فاروفاكيس كتابه. الاقتصاد مجال مفتوح لكل البشر، فكما يولد جميع الأطفال عراة، فعليهم أن يتعرفوا إلى ذلك العامل الحاسم الذي لا يلبث أن يميز بعضهم عن بعض، وذلك حق أصيل لكل البشر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"