مساواة وعدالة مزعومتان

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لم يُقيض لمنظومة الفكر السياسي الديمقراطي الحديث، أن تحافظ على وحدة نواتها التي صَنَعت أساساتها، فتتطور تطوراً متوازناً على النحو الذي تتجاور فيه أبعادُها الاجتماعية والسياسية كافة، بحسبانها أبعاداً متكاملةً متجانسةً لا متمايزةً متنابذة. ما حصل عكسُ ذلك، تماماً؛ إذِ انقسمت على نفسها إلى مقالتين (أو خطابين) بينهما تقابل وأحياناً، تضاد: مقالة ليبرالية وثانية اشتراكية. وقد مسَ التقابُلُ هذا مفاهيم المنظومة جميعَها وفي المقام الأول، مفاهيم: الحق، الديمقراطية، المساواة، العدالة الاجتماعية؛ حيث لم تعُد هذه تعني المعنَى عينَه عند كلٍ من التيارين الفكريين المتقاطبين؛ وحيث بعضُها صار عنواناً فكرياً وإيديولوجياً لهذا التيار ولذاك. هكذا، مثلاً، ستقترن المساواة بالليبرالية والعدالة الاجتماعية بالاشتراكية.

وكما انقسمتِ المنظومة فكرياً إلى تيارين متقابلين، انقسم تعبيرُها السياسي الدولتي إلى منظومتين سياسيتين متجافيتين ومتناقضتين: منظومة الدول الليبرالية، ومنظومة الدول «الاشتراكية». ولقد استمر الانقسامُ هذا، وما اقترن به من صراعات بينهما، لفترة تزيد على السبعين عاماً فاصلة بين نجاح الثورة البلشفية في روسيا وانهيار الاتحاد السوفييتي. ومثلما تَلاَزَم مفهوم المساواة مع الفكر الليبرالي، والعدالة مع الفكر الاشتراكي، كذلك تَلاَزَم المفهومان مع النموذجين السياسيين المطبَقيْن؛ فكانت الديمقراطية تعني، في الدول الغربية، تطبيق مبدأ المساواة الذي يقضي بالتسليم القانوني بالحقوق السياسية المتكافئة للمواطنين جميعاً، فيما ظلت تعني، في الدول «الاشتراكية»، تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يقضي بكفالة الحقوق الاجتماعية لطبقات المجتمع (خصوصاً الطبقات الكادحة) والتوزيع العادل للثروة. ولم يلبث مبدأ العدالة الاجتماعية (في مفهومها الاشتراكي على الأقل) أنِ اختفى من مسرح التداول السياسي منذ وقع انهيار المعسكر «الاشتراكي» في بداية تسعينات القرن الماضي.

والحقُ أن المبدأيْن معاً (المساواة والعدالة) لم يكونا موضعَ تطبيقٍ سياسي في أيٍ من النموذجيْن السياسيين، على الرغم من ادعاء ألسنةِ كل منظومةٍ بذلك؛ فلقد تحولَ المبدآن من فكرتين تأسيسيتيْن للمجتمع الحديث إلى إيديولوجيتيْن سياسيتيْن مشتبكتين، وكان مآلهُما الصيرورة أُزعومتَيْن سياسيتين تُخفيانِ، في الواقع، نقيضَ ما تُعلنانه! وبيانُ ذلك كالتالي:

لم يتنزل مبدأ المساواة في الحقوق السياسية واقعاً مادياً فعلياً في المجتمعات الليبرالية الغربية، على الرغم من كل موجات الادعاء الإيديولوجي التي لم تتوقف فيها. لردْحٍ من الزمن طويل استُثْنِيَت الطبقاتُ المنتجة من عمال وفلاحين والفئات الهامشية الرثة من أي حق سياسي (في التمثيل والتصويت والمشاركة السياسية)، وقُصِر الحقُ ذاك على الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج. في الأثناء حُرِمَت النساء من الحق السياسي عينِه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت المشاركة السياسية شأناً ذكورياً حصْرياً وكذلك حُرِم السود والملوَنون من حقوقٍ احتكرها البيض، إلى أن كسرت حركة الحقوق المدنية، في الولايات المتحدة الأمريكية، هذا العُرف البغيض.

واليوم ما زال المهاجرون في بلدان الغرب يعيشون الإقصاء والتهميش السياسيين في معظم تلك البلدان. أما الحياة السياسية والانتخابية فتحتكرها القوى الليبرالية ومَن يقف على يمينها. وفي معظم دول الغرب ليس مسموحاً لأحزاب شيوعية أو اشتراكية أن تحظى بالاعتراف القانوني، فكيف بأن تشارك في الاقتراع وفي الحياة العامة! هكذا ظلت المساواة القانونية-السياسية، المنصوص عليها في الدساتير، مجرد إعلانات شكلية ونصوصٍ مجردة غير مطبقة!

ولم تكن الصورة في المجتمعات «الاشتراكية» (السابقة) أقل سوءاً: فإلى أن الحقوق السياسية محدودة، في نطاق نخب السلطة، لم تتمتع طبقات الشعب الكادحة إلا بالنزر اليسير من الحقوق الاجتماعية، وفي ميادين محدودة (السكن، التعليم، الصحة). أما في الإنتاج فلم يكن شيء منه ومن وسائله مملوك لها، على ما ادعى الخطاب الإيديولوجي «الاشتراكي». كان كل شيء في ملكية الدولة: المعامل، المزارع، وسائل الإنتاج... وكان على المنتجين أن يبيعوا قوة العمل للدولة؛ أي لهذا الرأسمالي الجديد الذي أتى ليستحوذ على فائض القيمة باسم الشعب بدلاً من الرأسمالي التقليدي! لذلك لم يكن مستَغْرَباً أن تنشأ، في رحم هذا المنتوج، طبقة اجتماعية جديدة، مستحوذة على السلطة وعلى الثروة في آن، هي طبقة برجوازية الدولة لتدير نظاماً جديداً، باسم الاشتراكية، هو نظام رأسمالية الدولة. وهي طبقة رديف لتلك الطبقة التي تأخر لديها النفوذ والسلطة والثروة في النموذج الليبرالي الغربي: البرجوازية المالية، وريثة البرجوازية الصناعية في الغرب؛ والتي لا تزال، حتى يومِ الناس هذا، الماسكة بأَزِمَة السلطة والثروة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"