عادي

المصالح المرسلة في حياتنا (2-2)

22:41 مساء
قراءة 3 دقائق
1
عارف الشيخ

د. عارف الشيخ

إذا قلنا بمشروعية العمل بمقتضى المصالح المرسلة، وقلنا كما قال الإمام الغزالي في كتاب المستصفى ج1 ص286: «أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب مصلحة أو دفع مضرة»، فإن المصالح المرسلة تكون مطاطية تتسع لما يصح ولما لا يصح، لذلك فإن الغزالي نفسه قال في تعريفه بعد ذلك: «لسنا نعني جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلقاً، لأن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم».

هذا ما يفهم من تعاريف العلماء، رحمهم الله تعالى، للمصلحة، ورغم ذلك فإنهم يقولون: لا يمكن أن تتحقق المصلحة الخالصة بأكملها، أو بمعنى آخر، لا توجد مصلحة خالصة ولا مفسدة خالصة.

وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: «يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما» الآية 219 من سورة البقرة.

نعم، كان الله قادراً على أن يخلق الحياة كلها خيراً أو كلها شراً، لكن لو خلقها كذلك، فإن العقل كان يتعطل، وعندئذ نعيش حياة البهائم التي تدافع عن حقها بقوة قرونها لا بالعقل.

والإنسان ميزه الله تعالى بالعقل، ليميزه عن البهائم، لذا فإنه قال: «الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً»، الآية 2 من سورة الملك.

أراد منا أن تكون لنا إرادة ومشيئة، ونستخدم عقولنا في تمييز الخير عن الشر، وبناء عليه يجازي المحسن ويعاقب المسيء، وهذا هو عين العدالة.

إذن يمكن القول بأن المصالح منها المعتبرة، ومنها المصالح غير المعتبرة وهي الملغاة، ولماذا هذه معتبرة وتلك ملغاة؟

لأن المعتبرة تستند إلى نص صريح في الشرع، أو إجماع، ومن ثم يمكن أن يقاس عليه غيرها.

حفظ العقل الذي هو إحدى كليات الدين الخمس اعتبره الشارع، ولذا حرّم الخمر لأنها مفسدة للعقل، فكان من المنطق والمعقول أن يقاس على الخمر كل مسكر في زماننا، فبعض الناس يشم مادة الغراء أو يشرب الكولونيا فيسكر، فهل يصح أن تحكم بجواز استعماله بعد أن علمنا أن الوسيلة تبرز الغاية؟ وهو أنه شربه ليسكر وقد سكر من غير أن يشرب الخمر.

وربما لجأ بعضهم إلى الانتحار وهو منتشر في زماننا هذا، وقد أقدم عليه البوعزيزي في تونس فأطاح برئيس الدولة، وأقدم على الانتحار بعده عدة شبان في عدة بلاد.

فهل يجيز الشرع ما فعله البوعزيزي، حتى لو حقق مصلحة؟

كلا لا يجيز الشرع الإقدام على الانتحار حتى لو حقق مصلحة، لأن الانتحار يتعارض مع النص والإجماع، لذلك فإنه وإن كانت فيه مصلحة، لكنها مصلحة غير معتبرة شرعاً.

ولو أجيزت لأدت إلى قلب الحقائق وتغيير ما أقره وما لم يقره الشارع الحكيم.

فالله تعالى قال: «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً» الآية 29 من سورة النساء.

والرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً.. الحديث» رواه البخاري ومسلم.

نعم، إن المنتحر خلّص نفسه من عذاب أو ألم أو فقر في لحظة، لكنه اعتدى على نفس لا يملكها هو، وحرم المجتمع من نفسه التي خلقها لمصلحة البشر ككل، وليس لمصلحته هو فقط.

كالنملة أو كالخنفساء تدوسها أنت في طريقك تقتلها عمداً أو تهاوناً، بحجة أنها نملة أو خنفساء، لكن قتلها من غير سبب مصلحة غير معتبرة شرعاً، لأنها وجدت لتسبح الله تعالى في هذه الأرض، وقس على هذا الأمور كلها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"