النموذج الإدماجي والمثلث الحديدي

21:45 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبدالعظيم محمود حنفي *

إن كلاًّ من بلدان أوروبا القارية واليابان قد قطعت شوطاً بعيداً باتجاه ما يطلق عليه بعض المحللين «رأسمالية الشركات الكبيرة»، وهي أدركت في السنوات الأخيرة أنها بأمسّ الحاجة إلى ذلك النوع من ريادية الأعمال الابتكارية، التي سبق أن أيقظت الولايات المتحدة، وحققت النهوض الملحوظ في نمو الإنتاجية بها. ولكن الرأسماليات في هذين الإقليمين من العالم لم تهيمن عليها دائماً الشركات الكبيرة. فعلى مدى القرن ال19 وأوائل القرن ال20 بدأت الشركات الكبيرة مثل (ديملر بنز في المانيا، فيات في إيطاليا، تويوتا وميتسوبيشي في اليابان) جميعاً على أيدى رياديّي الأعمال. 
ومع ذلك فلم يكن رياديّو الأعمال وحدهم الذين انتصروا لريادية الأعمال، فقد امتدح قادة الفكر – أيضاً في أوروبا على الأقل- مزايا الفردية والمجازفة. ومن ثم قدموا أمثلة مهمة للدور المهم الذي لعبه فكر ريادية الأعمال بالولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال نجد الاقتصادي الفرنسي جان- بابتيست (صاحب قانون «ساي» القائل بأن «العرض يخلق طلبه بنفسه»)، وفي وقت مبكر من القرن ال 18 قد عظم من أهمية رياديّي الأعمال في اقتصادات لا تكف عن الاكتشاف وإعادة الاكتشاف. كذلك فيما يعدّ معروفاً على نطاق أوسع، ينطبق الشيء نفسه على كتابات عالم الاقتصاد السياسي البريطاني «آدم سميث»، الذي كان أول من شرح كيف أن رجال الأعمال المهتمين بمصالحهم – وهم رياديو الأعمال الفعليون في عصره- كانوا مجبرين بفعل ضغوط السوق، على خدمة المصلحة الاجتماعية الأعم، من خلال التركيز على ما ينتجونه بشكل أفضل. «ولما كان كل فرد يبذل قصارى جهده لتوظيف رأسماله في دعم صناعة ديمقراطية»، ومن ثم يدير تلك الصناعة، يحقق منتجها أعظم قيمة، فإن كل فرد يعمل بالضرورة من أجل تعظيم العائد السنوي للمجتمع قدر استطاعته. 
بوجه عام فإنه في الحقيقة، لا توجد لديه نية تعزيز المصلحة العامة، ولا يعرف كيف أنه يعززها كثيراً؛ إذ إنه من خلال تفضيل دعم الصناعة المحلية على الأجنبية يستهدف فقط أمنه الخاص، وبتوجيهه لتلك الصناعة بالطريقة التي تمنح منتجها أعلى قيمة، فإنه، مرة ثانية، يستهدف مصلحته الخاصة، وهو هنا – كما في حالات أخرى كثيرة – تقوده يد خفية؛ كي يعزز غاية لم تكن ضمن نواياه. كما أنه ليس من الأسوأ دائماً بالنسبة للمجتمع ألّا يكون هذا جزءاً من نواياه. ذلك أنه من خلال اقتفاء مصلحته الخاصة يعزز كثيراً مصلحة المجتمع على نحو أكثر فاعلية مما لو كان فعلياً يستهدف تحقيق تلك المصلحة العامة. 
وعلى الرغم من هذه الريادية الفكرية فقد ابتعدت كل من أوروبا (بما فيها بريطانيا العظمي) واليابان عن جذورهما في ريادية الأعمال، متجهتين إلى نوع من الرأسمالية مختلف جديد، ذلك النوع الذي لم يركز فحسب على المحافظة على الشركات الكبيرة، بل شجّعها بأشكال مختلفة من توجيه الدولة: الإعانات، التوجيهات الصريحة والضمنية للبنوك بدعم مشاريع بعينها، وغيرها من صور الدعم التي يمكن أن تقدمها الدولة. وفي اليابان اتخذت رأسمالية الشركات الكبيرة هذه شكل الزايباتسو (الاتحادات المالية ذات الطابع العائلي) أو التكتلات المالية – الصناعية، وبمقتضاه كانت البنوك اليابانية الكبرى تقرض الأموال أو تستثمر في أسهم المشاريع الكبيرة الناشئة في البلاد. وفي أوروبا أيضاً امتلكت البنوك أسهماً في كبرى الشركات المقترضة. ولكنّ أيّاً من البنوك أو الشركات لم يقرر المسار بمفرده. فقد نشأ نموذج اقتصادي «ذو نزعة إدماجيه» في العقود الأولي من القرن ال 20 في كل من أوروبا وأمريكا الجنوبية وشرق آسيا، وبمقتضاه قد تكون الملكية خاصة، ولكن القرارات الأساسية بشأن كيف يتم توجيه المدخرات الوطنية كانت تتخذ من خلال توافق اجتماعي – يشمل الشركات والنقابات الكبيرة، والدولة القوية. 
وكان هذا النموذج الإدماجي- ولا يزال – مماثلاً للمثلث الحديدي المكون من (الشركات الكبيرة، والنقابات الكبيرة، والحكومة الكبيرة) - ناقصاً البنوك- الذي وصفه الاقتصادي الراحل «جون كينيث جالبريث» بعد الحرب العالمية الثانية في عمله الأكثر مبيعاً وقتذاك بعنوان «الدولة الصناعية الجديدة».

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"