عابر سبيل

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

عجيب أمر الإنسان كيف يمشي في الأرض كأنه متحكّم في أمرها، مالكها الذي يحرّكها كيفما يشاء، بينما هو مجرد عابر سبيل، يصنع لنفسه بصمة واسماً، ثم يرحل. 
قال الجد لحفيدته: «إنه فيلم ولكل منا دور يؤديه، ثم ينتهي الدور فيرحل ليكمل الباقون أدوارهم، ويتوالى الممثلون ويستمر الفيلم». 
حكمة لا يدركها الغارق في تفاصيل يومياته وهمومه من صغيرها إلى أقساها وأصعبها، ولا يقترب منها الساكن في برج الغرور العالي، ويصعب أن يدركها المكتفي بالقشور قصير البصيرة الغائب عن وعي الحقائق وأبعادها. 
الكل يعبر من السبيل نفسه، إنما يستحيل أن يترك الجميع البصمة نفسها، ولا الأثر نفسه، ولا الصدى نفسه. مختلفون نحن في الشكل والروح، نتلاقى، نتفق أو نختلف، نتآلف، نتباعد، نحب ونكره، نسعى خلف أهداف متشابهة، أو ربما نتنافس على الهدف الواحد، إنما هناك شيء ما يفرّق بيننا، يميّز هذا عن ذاك، يجعلك فريداً في علامة ما، تسبق وتنجح وتتألق في محطة، ثم يسبقك ويتألق غيرك في محطة أخرى. 
من هو «الشاطر» إذاً؟ ولماذا الركض واللهاث والتنافس طالما أننا متشابهون، أو متعادلون في كفة الحياة؟ متنافسون نعم، متساوون لا. لا يأخذ التنافس معنى الصراع، بل يتسع ويرتفع ليتشكل في صورة السباق للوصول إلى قلب الحبيب، وما أجملها لحظة حين ترى الرضا في عينيه، وتسمع الإطناب في ثنائه عليك، وعلى ما فعلت وأنجزت. نتنافس مع ذواتنا لنرضيه، لنشعر بنشوة الانتصار على كل وهْم قد يحاول إضعافنا، أو عجز يعيقنا، نضع لأنفسنا أحياناً تحديات ونقف في مواجهة كل الآخرين ونحن في الحقيقة لا نتحدى إلا ذواتنا، ومتعة الفوز لذيذة حتى ولو كانت بسيطة وخفية، فالأم وهي تعدّ الطعام تضع نفسها في تحدٍ، وتنتظر أن ترى لحظة الانتصار في عيون أبنائها، وزوجها، أو ضيوفها. 
أما «الشاطر»، فهو من يذكّر نفسه باستمرار بأنه عابر سبيل، لن يمر بلا أثر، وله اختيار الشكل الأمثل للأثر الباقي من بعده؛ الأثر الذي لن يستطيع تغييره أو اقتلاع أي جزء منه في أذهان من عرفوه بعد أن ينتهي المشهد ويحين موعد الرحيل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"