النموذج الاقتصادي المميز

21:17 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة *

نجحت أمريكا اقتصادياً لكن نموذجها اليوم خاضع للمراجعتين الداخلية والخارجية. في الداخل وبسبب كافة المؤشرات لا بد من مراجعة العديد من القوانين والأنظمة التي وسعت فجوة الدخل وأبقت ملايين الأمريكيين فقراء كما مناطق عديدة متخلفة. تعاني أمريكا من مشكلتين أساسيتين هما: النظام المالي الذي أنتج أزمات كبيرة والمؤسسات الاجتماعية والصحية التي تكلف الكثير مع إنتاجية ضعيفة بسبب سوء التغطية وتفشي الفساد داخلها. هاتان المشكلتان أثّرتا في النتائج الاقتصادية العامة وجعلتا أمريكا تخسر الكثير من رونقها وبريقها لصالح المنافس الأول اليوم وهو الصين. في القوة الشرائية يبلغ الناتج المحلي الصيني 21 ألف مليار دولار والأمريكي 19 ألف مليار دولار، هذا لأن تكلفة المعيشة في الصين أقل بكثير وبالتالي لا يمكن الاتكال على الناتج الاسمي للمقارنة.

أمريكا غنية أصلاً في كل شيء من النفط إلى المعادن والمياه والأرض، وبالتالي حسن استعمال هذه الثروات هو في غاية الأهمية. في الناتج الفردي يبلغ 58 ألف دولار في الولايات المتحدة و 8000 دولار في الصين نظراً للحجم السكاني الصيني الكبير. الأمريكي الفرد أغنى بكثير لكن المستقبل ربما يصب لصالح الصين لأن تطورات التجارة العالمية بأشكالها الإلكترونية تتجه شرقاً. في مبيعات التجزئة الإلكترونية، يبلغ حجمها ألفي مليار دولار في الصين أي أكثر من المجموع في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ترتفع مبيعات التجارة الإلكترونية سنوياً بنسبة 30% في كل من أمريكا والصين و 13% فقط في أوروبا. سبب تفوق الصين هو عدد المشتركين في الإنترنت الذي يبلغ 900 مليون صيني مقارنة ب 300 مليون فقط في أمريكا. مستقبل التجارة الإلكترونية وبالتالي مستقبل التجارة عموماً يعتمد على الصين وتطورها ونموها.

لا شك أن أمريكا ما زالت تتفوق اليوم على الصين في العلوم وفي كل الصناعات المستثمرة في المستقبل كالذكاء الاصطناعي والحواسيب والسيارات الحديثة كما في المال وتقنياته الجديدة. مشكلة أمريكا مقارنة بالصين هي السياسات السيئة التي تطبق من حين لآخر، آخرها في العهد السابق حيث تم عزل أمريكا عالمياً عن الأمور المهمة كالمناخ والسلام والصحة والتجارة والمنطق. في كتاب جيد ل«غرينسبان» و«وولدريدج» عن الاقتصاد الأمريكي، يقولان إن تنوع الاقتصاد هو بأهمية حجمه وهذا هو حال أمريكا. فوجود مراكز عدة للقوة الاقتصادية الأمريكية في الجغرافيا هو دليل واضح على قوة أمريكا. في العديد من الدول، ترتكز القوة الاقتصادية في العواصم كباريس ولندن وغيرها، أما في أمريكا فهي موزعة في كل الاتجاهات كنيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس وغيرها وهذا دليل قوة.

هنالك نقطتان سوداويتان في رأي الكاتبان في المسيرة الأمريكية الاقتصادية وهما سوء معاملة سكان البلاد الأصليين أي الهنود كما التمييز الكبير ضد الأقليات وفي مقدمها السود ومؤخراً الآسيويين. ما زال السكان الأصليون يطالبون بحقوقهم، ولكن لا وجود لمن يسمع، علماً أن إدارة بايدن عينت شخصية نسائية في مرتبة وزير كمؤشر للمعاملة المستقبلية المنتظرة. حقوق الأقلية السوداء أصيبت بمقتل جورج فلويد وغيرها من الحالات المماثلة. أما الهجوم على الأقليات الآسيوية فأتى مع الكورونا المستوردة «صينياً» والتي أحدثت خسائر كبيرة ضمن مجموعة تميزت باندماجها السريع في المجتمع وبنجاحها الاقتصادي المدهش.

توسعت أمريكا تدريجياً حتى أصبحت على ما هي عليه. اشترت «لويزيانا» من فرنسا في 1803 و«فلوريدا» من إسبانيا في 1821 وضمت «تكساس» في 1845 و«أوريغون» في 1836. حصلت على «كاليفورنيا» بعد الحرب مع المكسيك في 1850. هذا التوسع الكبير بالإضافة إلى نظامها الديمقراطي الخاص أعطى نتائج إيجابية وسلبية واضحة. لكن النظام الديمقراطي يعاني اليوم شعبياً وفي القوانين وما الهجوم على الكونجرس في بداية 2021 إلاّ ليؤكد ذلك. عدم توافر بديل ديمقراطي عملي سيؤدي إلى بعض التغييرات التي ربما لن تكون بالضرورة إصلاحات كما تشير إليه التعديلات المقترحة في قوانين الانتخابات في مختلف الولايات خاصة الجنوبية. أقله في أمريكا، هنالك من يفكر في التغيير ويدعو له.

ما هي العوامل التي أسست أمريكا وما تزال مؤثرة في الاقتصاد والسياسة؟ ما هي العوامل التي سمحت بزيادة الإنتاجية في كل القطاعات وبخلق عقلية التجدد والابتكار والتغيير والانفتاح؟ كيف تكونت ثقافة النمو والانتقال بسرعة من وضع لآخر ومن منطقة لأخرى؟ هذه المرونة فريدة سمحت في توزيع التنمية على كل الولايات ولكن بدرجات مختلفة.

أولاً: النظام الحر الذي بني على أفكار آدم سميث والذي سمح للاقتصاد بالنمو السريع، فأصبح الأول عالمياً. طبعاً خلق هذا النظام مع الممارسة أزمات كبيرة في سوء العدالة، لكن الاستثمارات في البنية التحتية سمحت له بأن يحدث نفسه ويتطور. تحسن النقل والاتصالات بالإضافة إلى القطاعات الإنسانية من صحة وتعليم سمحت لأمريكا بالنهوض السريع والنوعي.

ثانياً: تأثير الحضارة الدينية في بناء الدولة والمؤسسات والتي اعتمدت ركائزها على أفكار علماء البروتستانت مما ساهم في تطويرها. ما زال هذا التأثير واضحاً في كل جوانب المجتمع بالرغم من ظهور حضارات أخرى بدأت تؤثر لكن ليس بالحجم نفسه.

ثالثاً: احترام الدستور إلى أقصى الحدود وكل ما ينتج عنه من قوانين ومؤسسات. هذا مهم جداً لفض النزاعات وتنفيذ القرارات والنتائج. هذا مهم لوضع حدود في ممارسة السلطة منعاً للتسلط والفوضى.

رابعاً: احترام حقوق الملكية العقارية ثم لاحقاً الفكرية وغيرها. لا يمكن بناء أي استقرار اقتصادي من دون حماية الملكيات والحفاظ عليها؛ اذ تشكل الدافع الأساسي للتقدم والاستثمار.

خامساً: هنالك احترام قل مثيله لقطاع الأعمال، مما سمح بنموه ونضج شركاته في الحجم والإنتاج. ليس كل من نجح في الاقتصاد فاسداً، ولا بد من التمييز بين الأداءين الجيد والسيئ. ينوه المجتمع الأمريكي بالمتفوقين في الأعمال والمهن ويعتبرهم مضرب مثل أو نموذجاً للأجيال الجديدة كي يستمروا وربما ينجحوا أكثر. أمثال «بيل جيتس» و«ستيف جوبز» ليست نادرة، وتحوز إعجاب المجتمع.

هنالك واقعان مهمان. تحصل الأزمات المالية لأن الشركات الاستثمارية توظف أموال الناس وبالتالي تغامر بها. تحصل هي على الأرباح وتحمل المخاطر للمجتمع. لو استثمرت بأموالها أو أموال أصحابها لتحفظت، وبالتالي كانت النتائج أفضل بكثير. ليس المهم أيضاً حجم الدين بل تكلفته. فائدة 10% ليست كفائدة 1% ، وبالتالي التركيز على حجم الدين ونسبته من الناتج لا يؤدي إلى اتخاذ القرارات الجيدة. المهم تخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمارات وتحفيز النمو وهذا هو دور المصرف المركزي المستقل.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"