لبنـــــان.. موازنة أفضل الممكن

21:46 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة *

من أهم الوثائق التي تصف وضع أي دولة هي الموازنة. تحصل صراعات حولها في أعرق دول العالم، وشاهدنا إقفال الإدارات العامة في العديد من الدول، بينها الولايات المتحدة، بسبب الخلاف على الأرقام. إحصاءاتها السنوية، أي توقعات الإنفاق العام والإيرادات توجه اقتصاد الدولة خلال سنة كاملة. وكل سياسات الدولة تصب في الموازنة عبر فصولها المرتبطة بالمؤسسات والوزارات لتلبّي حاجات المواطنين، وفي الوقت نفسه تضع خطوط تحصيل الإيرادات عبر الضرائب والرسوم وغيرها، والتي تمول الإنفاق.

الفارق بين الإنفاق والإيرادات يشكل العجز المالي الذي يتراكم في حساب الدين العام. وهنالك دول قليلة تحقق فائضاً في حساباتها أي أن إنفاقها يكون أقل من الإيرادات، وهذه نعمة، لكنها يمكن أن تشير أيضاً إلى إيرادات لا تستثمر في الاقتصاد للمصلحة العامة. وفي لبنان، الحاجات كبيرة والتمويل لا يكفي، لذا نتكلم من دون تردد عن عجز الموازنة الذي يتقلب بين سنة وأخرى. ولا بد من معالجة تراكم العجز أي وضع الدين العام عندما تسمح الظروف. فالأوضاع المالية والاقتصادية الحالية المتعثرة تنعكس سلباً على سعر صرف الليرة، من دون أن نهمل الرؤية السياسية التشاؤمية.

لم يرض أحد عن موازنة 2022، والأسباب مختلفة. في ظل ظروف خانقة كالتي نعيش فيها لا ينفع إلا الإنفاق السخي لإحداث نمو قوي يخفف البطالة ويرفع مستوى المعيشة، لكن الإمكانات المالية غير موجودة، والديون الحالية خانقة في الحجم والخدمة. ورفع نسب الضرائب في ظروف انكماش مُضر، لأن اللبنانيين غير قادرين على تسديد المتوجبات الحالية، فكيف بزيادتها؟ نعاني أيضاً نوعية الخدمات التي تزداد سوءاً، أهمها الكهرباء والاتصالات والنقل. وعملياً نتنازع على القليل الموجود في ظل غياب تام للرؤية المستقبلية التي كان من المفروض أن تكون فاعلة قبل إصدار الموازنة. الرؤية الخمسية مهمة كي نستطيع اتخاذ القرارات الصائبة للسنوات المقبلة. وفي غياب الإنفاق الكافي، ومع رفع النسب الضرائبية وتردي الخدمات المختلفة، لا نجد من يحسدنا على وضعنا المتميز سوءاً. لكن لا يمكننا كمجتمع أن نقف ونتفرج، ولا بد من عمل الممكن بل أكثر للإنقاذ.

من أصعب السياسات العامة وضع موازنة في وضعنا الحالي. فالاقتصاد ينهار أكثر فأكثر، والإمكانات متواضعة، وبالتالي فإن الإنقاذ صعب جداً. وفي وضعنا الحالي، أي عندما تعاني أي دولة ركوداً وبطالة مرتفعة واقتصاداً جامداً وتضخماً وإدارة غير فاعلة يعشش فيها الفساد، لا بد من تفعيل الإنفاق لتحريك الاقتصاد بانتظار تنفيذ الإصلاحات. كتب الاقتصادي «جون ماينارد كينز» في 1936 أن زيادة الإنفاق تنشط الاقتصاد ما يسمح بتحصيل الضرائب لاحقاً، والقضاء على الديون. وفي لبنان اليوم نحتاج عملياً، إلى زيادات كبيرة في الإنفاق على كل الأمور الاجتماعية والاستثمارية في وقت يعجز اللبناني عن سداد أبسط الضرائب، بل لا يستطيع حتى القيام بواجباته العادية تجاه نفسه وعائلته. نعاني في لبنان مستويات نمو وتنمية متدنية واقتصاداً مريضاً، في وقت لا يمكن خلاله زيادة الإنفاق كثيراً بسبب ضعف الموارد. الحاجات كبيرة والإمكانات متواضعة ما يسبب الكثير من القلق تجاه الحاضر والمستقبل.

 وكي يبقى العجز المالي ضمن حدود مقبولة، وطنياً وخارجياً، ألغت الحكومة الإنفاق الاستثماري، بالرغم من حاجتنا الماسة إليه في البنية التحتية، وغيرها. أُجل هذا الإنفاق المهم إلى السنوات اللاحقة لعل الظروف الداخلية والإقليمية تسمح عندها بذلك. وأجازت تقسيط الضرائب والرسوم لمدة 3 سنوات، وهذا يسمح للمواطن وللشركات بالتنفس قليلاً بانتظار أيام أفضل. وكان من المتوقع أن يتعزز الإنفاق الصحي والاجتماعي والتربوي إلى حدود مرتفعة، لكن الإمكانات قليلة بالرغم من الوعي الكبير للتحديات الخطرة التي تنتظرنا. وهنالك تعديلات في شروط الضرائب لأن تحصيلها ضروري لتمويل بعض الإنفاق العام المقرر. والزيادات على الرسوم والضرائب كبيرة ومن الضروري تعديلها لأنها تقضي على فرص النمو، وبالتالي لن تحصل على الكثير.

في كل حال، المعروض هو مشروع موازنة، ومن المنتظر أن يتعدل العديد من الأرقام، خاصة الإنفاق الاجتماعي وبعض النسب الضرائبية، شرط ألا نقع، مجدداً، في فخ العجز الكبير. يجب أن نكون خلّاقين في إيجاد إيرادات غير كلاسيكية وممكنة. ويمكن تلخيص وضع مشروع الموازنة كالتالي:

أولاً: الإنفاق، أي 49.42 ألف مليار ليرة. بالرغم من حجمه الكبير لا يكفي حتماً لتحسين أوضاع الموظفين الذين يعانون معيشياً. وتحسن سعر صرف الدولار، شرط استمراره، ربما يبقي معاناة العيش في حدود أكثر تحملاً. أما تحديد سعر الدولار فيجب توضيحه، إذ إن الضبابية في هذا الإطار تضعف الثقة بالحكومة وبقرارات وزير المال. ومن غير المقبول تأسيس هيئات أو مجالس جديدة في ظروف الشح المالي، علما بأننا نعلم جميعاً أنها لن تفي بالحاجات الكبيرة الملقاة على عاتقها. وهيئة مكافحة الفساد لن تنجح اليوم، وكان من الأفضل تأجيلها إلى ظروف استقرار مستقبلية. وحجم الإنفاق نسبة للناتج المحلي الإجمالي أصبح كبيراً جداً نتيجة تدني حجم الاقتصاد وبالتالي تقليص حجم القطاع العام واجب ومطلوب.

ثانياً: الإيرادات المقدرة ب39.15 ألف مليار ليرة تبقى غير كافية لتمويل الإنفاق. وزيادة الضرائب والرسوم كيفما كانت التشكيلة المقترحة لن تكفي، وكلما رفعنا النسب كلما تدنى التحصيل. والتركيز على الضرائب غير المباشرة واضح لصعوبة تحصيل أي أرقام كافية من الضرائب المباشرة. وهذا غير عادل ويوسع الفجوات المالية الداخلية. والحل هو في عودة الحياة إلى الاقتصاد اللبناني، أي يعود إلى نمو إيجابي طبيعي، ما يسمح بزيادة التحصيل الضرائبي لاحقاً. أما إعطاء وزير المال صلاحيات تشريعية، فمن المرجح ألا يقبل بها المجلس النيابي المتعلق جداً بصلاحياته التشريعية الكاملة. وفي كل حال، من الأفضل ألا نعطي اليوم أفضليات تشريعية لا يمكن إلغاؤها مستقبلاً، وقد تعلمنا في لبنان أن السوابق تدوم بسبب المصالح السياسية والطائفية.

ثالثاً: العجز المالي يبلغ نحو 10 ألاف مليار ليرة، أي 20.8% من الإنفاق، وإذا أضفنا إليه سلفة الكهرباء المقدرة ب5250 مليار ليرة، يصبح العجز 30% وهذا كبير بكل المعايير، ومن الممكن أن يعقد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

 وبسبب ضرورة وجود موازنة، لا بد من تعديل بعض أرقام المشروع بعد إقرار رؤية عامة واقعية تبث الأمل في العقول والقلوب. وفي هذا الوقت الضائع والثمين، لا بد من العمل لرفع إنتاجية الإدارة العامة، وضبط الهدر، ولو بنسب متواضعة، وهذا ممكن بانتظار التغيير مع الانتخابات النيابية والرئاسية.

* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"