الإطار التنظيمي لأسواق رأس المال.. نظرة استشرافية

21:05 مساء
قراءة 5 دقائق

د. عبيد سيف الزعابي *

تسعى أسواق الأوراق المالية جاهدة إلى استيفاء متطلبات الترقية بناء على تقارير التنافسية الدولية، وكذلك المؤشرات الدولية مثل مورجان ستانلي، وفوتسي، وستاندرد أند بورز حتى يتحقق الهدف الاستراتيجي لها لتكون أسواقاً متقدمة على المؤشرات العالمية، وقادرة تماماً على استقطاب الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال، وكذلك لديها القدرة على استيعاب أدوات الثورة الصناعية الرابعة القائمة على البرمجيات المتقدمة وأهمها الذكاء الاصطناعي، ومواجهة تعقد التكنولوجيات المستخدمة في الاستثمار مثل التعاملات فائقة السرعة، والأصول المشفرة وتقنية السلاسل المغلقة أو بلوكتشين، وتكنولوجيات الحسابات الموزعة DLT Distributed Ledger Technology، وهذا لا يمكن تحقيقه إلى بالتطابق التام مع المبادئ الحاكمة للنظم المالية والهياكل الإشرافية المطبقة في الأسواق المتقدمة، والمعروفة بكفاءة النظم المالية والتجانس مع تلك النظم والمعايير. 

وفي هذا الإطار تمثل التوصيات التي تصدرها المنظمات الدولية، وبالأخص معايير منظمة «أيوسكو» والتي هي أساس لتقييم الاستقرار المالي الذي يقوم به البنك الدولي من خلال لجنة FSAP، مرجعيات مهمة في هيكلة النظم الإشرافية على الأنشطة المالية والاستثمار لتجنب أحد أهم المخاطر النظامية وهو خطر عدم التطابق مع الممارسات الدولية Incompliance Risk والذي من شأنه التأثير في رسملة الأسواق المالية ودرجة المصداقية والشفافية التي تميز أسواق المال المتقدمة، خاصة تلك النظم الإشرافية المتخصصة في التنظيم والإشراف والرقابة على كفاءة تطبيق نظم حماية المستهلك، وحماية المستثمر، والإشراف على الأسواق والتأكد من مصداقية المعاملات في الأسواق لتفادي بعض أنواع الممارسات التي قد تؤثر سلباً في المستثمرين، مثل منع ممارسات تضارب المصالح بين المستثمر والشركة، وكبح الشائعات التي تنتشر في السوق، وتنظيم حوكمة الشركات، في حين تقوم بفاعلية من ناحية أخرى بتطبيق إجراءات التنظيم الاحترازي ومنها متطلبات الملاءة المالية، وتصنيف المخاطر وتوفير الاستقرار الشامل للنظام المالي. وهنا لابد من تأكيد أنه يجب أن تكون للجهات الرقابية مسؤوليات واختصاصات واضحة وغير مبهمة، وأن يكون لها استقلال كافٍ لتتمكن من العمل، فضلاً عن تخصيص الموارد المناسبة، والنقطة الأهم هنا، بحسب توصية معهد الاستقرار المالي، هي أن يتم تبني نموذج متكامل وموحد للجهات الرقابية يحقق التكامل بين الوظائف ويقضي على احتمالية نشوء تضاد مصالح بينهما، بحيث يتم استيعاب التغير في الثقافة والممارسة الدولية لتنظيم أنشطة الاستثمار ومواكبة التغير الجذري في مفهوم أسواق رأس المال الذي حدث في الأسواق المتقدمة حديثاً وأهمية التحول من ممارسة أساليب الرقابة المالية التقليدية إلى مفهوم التنظيم والإشراف الأكفأ والتكاملي مع الأنشطة المالية الأخرى، خاصة المصرفية، والتأمين، وهذا يتطلب فهماً واضحاً للنموذج الإشرافي المتعارف عليه دولياً، والذي يعمل على مبدأ تحقيق التوازن بين الإشراف الاحترازي والإشراف على متطلبات ممارسة الأعمال، تجنباً لنشوء المخاطر النظامية التي ستنشأ من تضارب مصالح في الإشراف على الأنشطة الاحترازية ذات المخاطر، وبين ترخيص النشاط والرقابة على ممارسة الأعمال، وبالتالي تشتيت المستثمرين وحدوث ازدواجية في متطلبات تقارير الإفصاح والملاءة المالية، وإضافة متطلبات امتثال عالية جديدة على الكيانات العاملة، مما يؤدي إلى رفع التكلفة.

ومما لا شك فيه أن الارتقاء بالدور التنظيمي والإشرافي للجهة المشرفة على تنظيم الأسواق المالية، يجب أن يتوافق مع حجم الاقتصاد وزخم الصناعة المالية لتمكينها من تطبيق كامل المبادئ الدولية، من خلال تركيز أنشطة التنسيق الاستراتيجي لنظم الإشراف المتخصصة على المنتجات المالية والاستثمارية تحت مظلة متكاملة ما سيحقق التعاون والتنسيق البيني بين الأنشطة من جانب، وإزالة جميع العوائق القانونية الكامنة في التشريعات الأخرى من جانب آخر، والتي تتداخل وتتعارض مع طبيعة التنظيم والرقابة المالية، وإجراء إصلاحات عاجلة عليها والذي من شأنه أن يدعم بشكل قوي، مستوى ثقة المستثمر وسيوفر قدرة فائقة لإنفاذ الأنظمة، وتحقيق نسب أداء عالية على مؤشرات التنافسية.

وهنا لابد من أن نشير إلى أهمية معالجة الأسباب التي تمنع المستثمرين سواء كانوا مستثمرين أجانب أو محليين، أفراداً أو مؤسسات، من الإقبال على الاستثمار في أسواق المالية والوقوف على الأسباب الكامنة وراء صعوبة الحصول على التمويل العام، خاصة بواسطة الشركات الصغيرة والمتوسطة، مقارنة بسهولة الحصول على التمويل المصرفي التقليدي والعمل على معالجة تلك الفجوات، خاصة في ما يتعلق بزيادة عمق السوق وتنوع المنتجات الاستثمارية، والارتقاء بممارسات حوكمة الشركات وترقية مؤسسات الوساطة التقليدية لتكون مؤسسات مالية متكاملة، كل ذلك سيمكن من إعادة الثقة بأسواق رأس المال، إضافة إلى العمل على تعزيز استقرار الإطار المؤسسي للسوق المالي، وخصخصة البورصات ومؤسسات السوق مثل المقاصة ومراكز الإيداع، لتصبح مؤسسات تقدم خدمات مالية عالمية مثل Clear stream وEuroclear. 

وبشكل أكثر تفصيلاً، لا بد من تحليل عناصر تقييم الأسواق المالية والتي تتضمن مدى انفتاح السوق لتدفق الاستثمارات الأجنبية على المؤشرات الأجنبية، خاصة بلومبيرج، وطومسون رويترز، وقياس مدى فاعلية الإطار التشغيلي للسوق، ومدى سهولة تدفق الاستثمارات من وإلى المستثمرين، إلى جانب تكريس جهد أكبر وتخصيص موارد مالية لتطوير وتنويع المنتجات المتاحة في الأسواق المالية، وإطلاق برامج توعية وتثقيف لمصدري الأوراق المالية والمستثمرين في تلك المنتجات، مع إعطاء جهود الترويج والتثقيف أولوية قصوى، بحيث يتم إعداد برامج توعية وتثقيف للمصدرين المستقبليين المحتملين، توفر لهم الإرشادات والمعرفة الضرورية بفوائد التمويل العام، بحيث يتم إيجاد وحدات متخصصة في التسويق في البورصات لتحقيق هذه الأهداف، ما سيكون له أثر واضح في زيادة رسملة السوق وزيادة حجم التداولات وقيمتها.

وأخيراً لابد هنا من الإشارة إلى ضرورة تطوير العوامل البيئية المحيطة بالصناعة، ومن أهمها تطوير منظومة إجراءات الطرح العام للأسهم العادية والممتازة، وكذلك تطوير سوق الدين، والسندات والصكوك، مثل تلك الموجهة للمستثمرين الأشخاص لتكون أكثر سهولة ومرونة، وكذلك تسريع وتيرة الإجراءات لبدء الإصدارات الحكومية وتداولها لخلق منحنى العائد المهم في نمو سوق سندات الشركات، وتشجيع المصارف لإصدار الأذونات المغطاة والتوريق للحصول على المزيد من السيولة. وكذلك تشجيع الوسطاء للعب دور أكبر في إتاحة أدوات صناعة السوق، مثل موفر السيولة وأدوات البيع على المكشوف، وإقراض واقتراض الأوراق المالية وأذونات الإيداع، وكذلك تطوير صناعة صناديق مغلقة منخفضة المخاطر، وصناديق التداول على المؤشرات التي ستعمل على توازن وثبات أسعار الأسهم، بحيث تقوم مؤسسات قوية مثل المصارف وشركات التأمين وصناديق التقاعد والصناديق السيادية وشركات الاستثمار وبيوت الوساطة بشراء وحداتها.

* أكاديمي متخصص في الأسواق المالية والتمويل، نائب رئيس المنظمة الدولية للهيئات المشرفة على الأسواق المالية «الأيوسكو» سابقاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مستشار التمويل والأسواق المالية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"