الصحة ضحية التقشف

21:48 مساء
قراءة 3 دقائق

د. لويس حبيقة *

انعكاسات السياسات الاقتصادية لا تتوقف فقط على المادة أي على النمو والدين والعجز المالي؛ بل تصل اليوم أكثر فأكثر إلى صحة الإنسان المادية والنفسية أي عملياً إلى الحياة والموت. ماذا ينفع الإنسان أو الشعب إذا تحسن النمو وزاد اليأس لأسباب متعددة؟ ثروة أي مجتمع ليست فقط الإنتاج الصناعي؛ بل خاصة أوضاع المواطن الصحية التي تنعكس على الإنتاج والاستهلاك. الاستثمار في الصحة هو في غاية الأهمية ويجب أن لا تطاله السياسات المالية التقشفية حتى خلال أسواء الأزمات. تشير الوقائع إلى أن الصحة لا تنعم بالحماية المالية الضرورية ويجري في أكثرية الدول المس بأرقامها حماية للفساد في القطاعات الأخرى خاصة البنية التحتية. التقصير بالاهتمام الصحي أضعف الأنظمة الوطنية وجعل المجتمع الإنساني العالمي يصاب بجرح كبير من جائحة كورونا المستمرة.

قال روبرت كينيدي في مارس/آذار 1968 أن الناتج المحلي الإجمالي يقيم كل شيء، إلا العوامل التي تجعل الحياة ذات قيمة ومعنى. من هنا الدعوة السابقة والمستمرة إلى إيجاد مؤشرات وطنية أفضل، علماً بأن التقييم الرقمي للمؤشرات الإنسانية والنفسية يبقى في غاية الصعوبة. فالسياسات الاقتصادية الحالية تؤثر أكثر فأكثر في معنويات الإنسان التي تنعكس بدورها على صحته في الجسم والعقل. فإذا نجح بعض المجتمعات في معالجة الأوضاع الصحية العادية أي في الجسم، فهنالك تقصير كبير في معالجة الأمراض النفسية والعقلية خاصة في الدول النامية والفقيرة. شركات التأمين بأكثريتها لا تغطي الأمراض النفسية والعقلية، علماً بأنها أخطر، لكن ربما معالجتها أصعب وتكلف الكثير. طبعاً نتائج المعالجات ليست مضمونة، لكنها واجب شخصي وعائلي واجتماعي ولا بد من إدخالها في بوليصات التأمين المتخصصة.

سياسات التقشف تهدف إلى تخفيض الإنفاق والعجز وبالتالي تقليص نمو الدين العام. اعتمدت خاصة في الأزمات في أكثرية الدول، لكنها لم تعط النتائج الجيدة لأن أهدافها كانت فقط رقمية مادية ولم تعالج المشاكل الصحية التي طالت جميع المواطنين نتيجة الضيق الإنفاقي. المواطن هو عامل ورجل أعمال ومستهلك ومنتج وبالتالي إذا كانت صحته سيئة ينهار الاقتصاد حتى لو كانت المؤشرات المالية سليمة. طبق الرئيس الأمريكي «روزفلت» مجموعة سياسات إنفاقية سخية في فترة 1933-1939 لإنقاذ الاقتصاد وتخفيض البطالة ومعالجة الأوضاع المصرفية السيئة بعد كارثة 1929.

ألزمت سياساته الدولة الفيديرالية وليس الولايات الفردية التي تنعم بأنظمة مستقلة. لذا هنالك ولايات طبقت سياساته وأخرى لم تفعل. أشارت الدراسات الميدانية لاحقاً إلى أن الولايات التي طبقت برنامج روزفلت تحسنت داخلها مؤشرات الصحة العامة، على عكس الولايات التي لم تطبقها. الواضح أن الرئيس بايدن يطبق اليوم نسخة جديدة من برنامج روزفلت؛ حيث سينفق الكثير على المواضيع الصحية لمواجهة كورونا كما على التحديات الصحية والاجتماعية الكبيرة، إضافة إلى البنية التحتية. يواجه الرئيس معارضات من الحزب الجمهوري في كل ما يرتبط بالإنفاق والضرائب والسياسات الخارجية.

لتقييم سياسات التقشف، لا بد من مقارنة الأوضاع العامة بين اليونان وآيسلندا؛ حيث عانتا من أزمات مالية حادة مماثلة. عالجت اليونان أزمتها عبر التقشف الحاد على كل شيء برعاية أوروبية ودولية بما فيه على الأمور الصحية والاجتماعية. آيسلندا لم تطبق التقشف على الصحة؛ بل فقط على الأمور المادية من بنية تحتية وغيرها. ماذا كانت النتيجة؟ في اليونان زادت نسبة الأمراض المزمنة الخطِرة 52%، تضاعف الانتحار مرتين، زادت جرائم القتل وعادت الملاريا. ارتفع عدد الوفيات أيضاً نتيجة التقشف الصحي والاجتماعي. في آيسلندا كانت النتائج معاكسة جداً في كل المؤشرات الصحية والوفيات، والسبب واضح هو حفاظها على الإنفاق الصحي والاجتماعي حتى في الأزمات. كذلك الأمر في السويد؛ حيث انحدر عدد حوادث الانتحار خلال الأزمة المصرفية بسبب الحفاظ على الإنفاق الصحي والاجتماعي. النضج الإسكندينافي في معالجة حقوق المواطن والحريات ربما لم ينعكس على بقية الدول الأوروبية.

أهم مؤشر لنجاح أو فشل السياسات الاقتصادية هو تأثيرها على العمر المرتقب. فالتأثير واضح من الاقتصاد إلى الصحة. لذا مواطنو الدول المتقدمة يعيشون مدة أطول بسبب المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية المتقدمة بينها الصحية. حتى داخل الدول، يختلف العمر المرتقب بين مدينة وأخرى تبعاً للأوضاع المعيشية. 

حتى في فترات الأزمات الاقتصادية، من الممكن أن تتحسن المؤشرات الصحية إذا لم يطالها التقشف. في الأزمات، تحاول الحكومات الجدية دراسة مصادر الهدر الصحي ومعالجتها كما يتم النظر إلى التفاصيل ومعالجة الخلل. لذا من الممكن أن يصبح النظام الصحي أفعل ومنتج أكثر في زمن الركود والأزمات.

أخيراً الركود يؤذي، لكن التقشف غير المدروس يمكن أن يكون قاتلاً للمجتمع والإنسان.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"