القوة الصامتة الذكية

21:18 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة *

لا شك في أن الصين هي القوة الصامتة الذكية التي تلعب دوراً متزايداً في السياسة والاقتصاد الدوليين. في 2022 قالت الحكومة الصينية، إنها تهدف إلى تحقيق نسبة نمو 5,5% هذه السنة، وهو الهدف الأدنى منذ سنة 1991. إذا تحقق يعتبر هذا إنجازاً بعد أن تدنى النمو الصيني إلى 2% في 2020. فترات النمو المرتفعة السابقة ربما ذهبت إلى غير رجعة.
ما هي التحديات التي تواجه الصين أمام تحقيق نمو قوي طويل الأمد؟ نبدأ من فجوة الدخل والثروة المتسعة كثيراً ودائماً، والتي يمكن أن تؤذي العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الصيني. بطالة 5% مرتفعة في مجتمع ضماناته الاجتماعية محدودة. أما الفساد فمؤشراته ترتفع في كل أنحاء المجتمع، كما أن المعايير الدولية المعتمدة تؤكد ارتفاعه داخل الصين. في مؤشر الشفافية العالمية تقع الصين في المرتبة 66 من أصل 180 دولة يجري تقييمها. 
قيمة المؤشر هي 45، علماً بأن المرتبة الأولى هي للدانمارك مع مؤشر 88؛ أي ما يقارب المثالية دون أن تصل إليها طبعاً. سياسة الطفل الواحد التي اعتمدت لسنوات وألغيت مؤخراً، جعلت المجتمع الصيني يعتمد في هيكليته على المسنين؛ أي هرمية معاكسة تضر بالإنتاج والنمو. أما أوضاع الشركات الصينية وخصوصاً شركات القطاع العام، فتعاني فساداً وضعف إنتاجية وفاعلية كبيرتين، وبالتالي تحتاج إلى عمليات جراحية عميقة كي تصحو من كبوتها. أما التلوث الذي يعانيه الاقتصاد فيحتاج إلى تغيير أو تحديث آليات الإنتاج والتكنولوجيا المعتمدة، بحيث لا تضر بصحة المواطنين وتعرقل عمليتي النمو والتنمية. لا بد أن نضيف إلى هذه العوامل الخمسة اثنان مهمان هما كورونا الذي يعود اليوم إلى الانتشار ويُقلق الحكومة، وثانياً الحرب الروسية على أوكرانيا التي ستكون لها تداعيات آسيوية وعالمية كبيرة مهما كانت نتائجها.
أثّر كورونا كثيراً في إمدادات السلع وعرقل عمل الاقتصاد العالمي، وسبب زيادات كبرى في مؤشرات التضخم. تخاف الصين من ارتفاع أسعار سلع الغذاء، وهي المستوردة لها، حيث بلغت الفاتورة الاستيرادية 133 مليار دولار في سنة 2019. بسبب ضعف العرض وكورونا، ارتفعت أسعار سلع مهمة كالخضراوات في المدن الصينية بنحو 31% من شهر 11 2020 إلى 11 2021، كما أن أسعار البيض في الصين ارتفعت 20% في المدة نفسها. المواطن الصيني يفقر وصحته أسوأ، والأفق لا يبشر بالانفراج. مشكلة أسعار السلع الغذائية إذاً كبيرة، للصين، لكن أوضاع الطاقة لا تقل أهمية؛ لأنها تستورد الغاز والنفط والفحم، وبالتالي يمكن أن تتّكل على روسيا لتموينها بالطاقة تحصيناً للاقتصاد. روسيا هي المصدّر الأول للنفط للصين منذ سنة 2016، وقريباً سيكون حال الغاز الروسي.
12 % من مجموع الواردات الصينية من النفط والغاز تأتي اليوم من روسيا. لا شك إذاً، في أن الطاقة هي ركيزة العلاقات الروسية الصينية التي تتبدل منذ عقود بين المواجهة والتعاون، تبعاً للمصالح الداخلية والدولية.
في الحرب الروسية الأوكرانية تمارس الصين دوراً صعباً، بحيث لا تستطيع التخلي عن روسيا؛ بل ترغب في التعاون معها ضد الغرب وخاصة ضد الولايات المتحدة. 
في نفس الوقت تفاوض الصين الولايات المتحدة والغرب على ركائز التعاون، وربما تقسيم وتوزيع المصالح الدولية ضمن المنافسة ومن دون المواجهة. الجميع اليوم يرغب في التعاون مع الصين، بسبب المأزق الروسي المتعدد الأوجه. فالحلف الروسي الصيني قوي ومبني على مصالح اقتصادية وجغرافية أيضاً.
مع دنغ هسياو بينغ منذ 1978 أصبحت الصين فعلاً، قوة اقتصادية عالمية؛ أي نظام اقتصادي حر مع نظام سياسي موجّه. هذه الازدواجية الناجحة تعطي اليوم الثمار للشعب الصيني الذي يحسّن تدريجياً أوضاعه المعيشية. 
أما في العلاقات الصينية مع الولايات المتحدة، فالاقتصاد ليس كل شيء؛ لأن موضوع تايوان الصينية يبقى في غاية الأهمية بالنسبة للدولتين. أمريكا حذرة من إمكانية تحالف روسيا مع الصين كي تغزو تايوان، والصين تحشر الولايات المتحدة عبر تطوير العلاقات مع روسيا كي تحصل على أفضل الشروط والنفوذ في المؤسسات الدولية والإقليمية. هونغ كونغ تقع أيضاً في قلب العلاقات الغربية مع الصين؛ إذ إنها داخل الصين سياسياً، لكن مع «أفضليات» إدارية واقتصادية حتى سنة 2047، لكن ماذا بعد؟ الوقائع في هونغ كونغ على الأرض مهمة للطرفين، وما جرى من صراعات سياسية يشير إلى عدم استقرار الأوضاع في المدينة الفريدة.
الطرفان الغربي والصيني يتعاملان بذكاء وشفافية وموضوعية وحذر تجنباً للأذى. في الحرب الروسية على أوكرانيا، روسيا تتعثر اقتصادياً ليس فقط في الصادرات وإنما أيضاً في تسديد فاتورة الاستيراد بسبب العقوبات المصرفية القاسية. هل يمكن للصين التي لا ترغب في فوز حلف شمال الأطلسي  ولو سياسياً  أن تساعد الرئيس بوتين في حربه الكبيرة؟ لا يمكن لها إنقاذ روسيا للأسباب الأربعة مجتمعة:
أولاً: لا تستطيع الصين توفير العديد من السلع التي يحتاج إليها الاقتصاد الروسي كقطع الغيار لكافة الآليات والسيارات والمعدات.
ثانياً: الدول التي تساعد روسيا ستخضع لنفس العقوبات، وهذا ما لا تريده الصين التي ربما ترغب في الاستفادة من الحرب لتقوية موقعها تجاه كل الفرقاء.
ثالثاً: هناك البعد الجغرافي بين العاصمتين. على الرغم من الحدود المشتركة بين الدولتين، فالمسافة بين مراكز القرار؛ أي بين العاصمتين طويلة جداً (5800 كلم)، وهذا مهم جداً للنقل والمساعدات واللقاءات على أنواعها.
رابعاً: هناك المنافسة الاقتصادية الكبيرة بين الدولتين في آسيا وعالمياً، والتي تمنع عملياً ارتكاز العلاقات على الثقة؛ بل على المواجهة الباردة.
هذا يعني أن الصين لا يمكنها، وربما لا ترغب في حماية روسيا من النتائج السلبية لحربها على أوكرانيا. 
*أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"