أمريكا والعالم الجديد .. التحذير من التدمير الخلاق!

21:54 مساء
قراءة 4 دقائق

د. عبد العظيم حنفي *

تنبه دراسات اقتصادية أمريكية إلى أنه على الأمريكيين أن يتعلموا التعايش مع حقيقة أنهم لم يعودوا محتكرين للخلطة الفريدة التي تخلط بين رأسمالية الشركات الكبيرة ورأسمالية المشاريع الريادية، وأن هذا الإدراك قد يشكل ميزة للولايات المتحدة تدفعها إلى الحفاظ على التزامها بكل من الابتكارات الجذرية والتطوير المستمر لتلك الابتكارات، ويحذرون من قيام صانعي القرار في الولايات المتحدة - بدافع الخوف من المنافسة الشديدة - بتبني شكل دفاعي من أشكال الرأسمالية يؤدي بمرور الزمن إلى إعاقة النمو المميز للابتكارات وهي السمة التي ميزت الولايات المتحدة. 
وهذا الخوف الذي تتحدث عنه تلك الدراسات ينشأ من العواقب الحتمية لأي اقتصاد قائم على ريادية الأعمال، وهو ما يطلق عليه «شومبيتر» التدمير الخلاق، فعادة ما تتم عمليتا الخلق والتدمير من رواد الأعمال والشركات الجديدة التي تحول التكنولوجيا الجديدة التي حلت محل التكنولوجيا القديمة إلى منتج تجاري. ومن أمثلة ذلك السيارة بدلاً من الحصان والكهرباء بدلاً من طاقة البخار، وبرامج الكمبيوتر التي أدت ولا تزال إلى الاستغناء عن كثير من الأعمال التي كان الإنسان يقوم بها فيما مضي. 
إن الاقتصادات الناجحة القائمة على ريادية الأعمال تحتضن وتشجع بصفة عامة فكرة التغيير، فهي لا تضع العقبات التي من شأنها منع الأموال والأفراد من التحول عن قطاعات اقتصادية راكدة بطيئة الحركة نحو صناعات ديناميكية. كذلك لا تعمل تلك الاقتصادات على حماية منتجاتها المحلية من المنتجات الأكثر كفاءة التي تنتجها الدول الأجنبية، بل هي تسعى إلى أفكار أفضل أينما وجدت تلك الأفكار حتى وإن كانت واردة من الخارج.
ولا يجد رواد الأعمال المقلدون- بطبيعة تعريفهم- أي صعوبة في الحصول على أفكار لأعمالهم؛ إذ إنهم – ببساطة- يستنسخون ما قام به آخرون. ويمثل التحدي الوحيد أمامهم في اختيار ما يناسب مهاراتهم وخبراتهم واهتماماتهم من بين ما لا يحصى من أعمال أو نماذج أعمال قائمة بالفعل في السوق. ومن المفيد هنا أن ننحي جانباً فكرة أن التجديد يعنى شيئاً جديداً تماماً، فالمنتجات والخدمات المبتكرة جديدة بالطبع، ولكنها لم تكن لتوجد دون أن تسبقها مكونات أو أفكار أخرى. فكما قال العالم الشهير «اسحق نيوتن»: «لو أني أرى أبعد من الآخرين، فما ذاك إلا لأني وقفت على أكتاف عمالقة». 
الأمر نفسه ينطبق على رواد الأعمال المبتكرين، أو أي مخترع، من تلك الزاوية: القفزات التكنولوجية تحدث فقط عندما يتم جمع الأفكار والمنتجات ذات الصلة- والموجودة في السوق بالفعل – معاً بأساليب جديدة، فرواد الأعمال المبتكرون الناجحون هم أولئك الذين وضعوا أيديهم على الفرص التجارية التي توفرها عمليات إعادة الدمج هذه ثم حولوها واقعاً.
ولاحظت دراسات اقتصادية، أن الابتكارات الجذرية والتغيرات التي تتولد عنها، عادة ما تحدث في شكل موجات يصاحبها كثير من الاضطراب على مدى زمني طويل فيه كثير من الخاسرين وقليل من الفائزين، فعلى سبيل المثال كان هناك عدة آلاف من الشركات والأفراد يقومون بصناعة ومحاولة بيع السيارات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولم يستمر من تلك الشركات والأفراد إلا حفنة قليلة، وبالمثل في صناعة التليفونات وغيرها. وتصاحب تلك الثورات التكنولوجية فقاعات مالية، حيث يراهن المستثمرون على العديد من المنافسين مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسهم ارتفاعاً هائلاً قبل أن تهوي الأسعار لمستويات متدنية جداً عندما تفشل معظم تلك الشركات. 
إن الطبيعة المتذبذبة للأسواق المالية متأصلة في أي اقتصاد قائم على الابتكارات الجذرية أو التي تؤدي إلى تحولات ونقلات نوعية كبيرة. كذلك نجد الاقتصادات التي تتسم برأسمالية ريادية الأعمال اقتصادات ديناميكية يتغير فيها ترتيب الشركات بصورة هائلة على النقيض من استقرار ترتيب الشركات في الاقتصادات التي تتسم برأسمالية الشركات الكبيرة.
ويمكن نظراً للاضطرابات التي تؤدي إليها التغيرات الراديكالية أن تستفيد الاقتصادات القائمة على ريادية الأعمال من شبكات الأمان التي تحمي بعض ضحايا التغيير من آثاره القاسية دون أن تقضي على قدرته في المبادرة والنهوض من جديد. وقد يبدو هذا الأمر وكأنه لغز، فسبب تميز بعض الدول في ريادية الأعمال هو عدم استرخاء المواطنين بسبب التهديد الخارجي الذي يواجه تلك الدول، ففي المجتمعات التي يتمتع فيها الأفراد بالارتياح فقد يعزف المواطنون على الإقدام على تحمل المخاطر التي تنطوي عليها ريادية الأعمال. بل إن أحد موظفي الحكومة في فرنسا كتب كتاباً حقق مبيعات هائلة بعنوان «صباح الخير أيها الكسل» استفاض فيه بذكر فضائل عدم العمل الشاق. 
وتعد أخلاقيات «تجنب العمل» مشكلة ثقافية حقيقية في دول غرب أوروبا تظهر في الانخفاض الكبير في متوسط عدد ساعات العمل السنوية التي يشتغلها الأفراد العاملون في شركات أوروبية رئيسية. فحيث يوجد الأمان الوظيفي في أوروبا لدى من يعملون بالفعل، لا يكون تأليف كتاب يشيد بالكسل أمراً يثير الاستغراب، إما في المجتمعات الأخرى حيت يفقد الناس الكثير عندما يفقدون وظائفهم، كما هي الحال في الولايات المتحدة، فإن التغيير أياً كان يحمل معه درجة كبيرة من التهديد، وعندما يضرب التغيير حائط المنزل، يكون من السهل إلباسه لباساً أجنبياً وإلقاء اللوم على التجارة، أو الاستثمار المباشر للشركات الأمريكية في الخارج، أو الاستعانة بمصادر خارجية، بدلاً من الاعتراف بأن معظم التغيير تدفعه عناصر داخلية بالاستمرار في تحسين الإنتاجية الذي يسمح للشركات بالإنتاج باستخدام عدد أقل من العمال- سواء كانت أو لم تكن هناك منافسة أجنبية أو الاستعانة بمصادر خارجية في مثل هذه البيئة إذن يكون لدى الخاسرين الفعليين أو المحتملين من التغيير حافز قوي لمحاولة وقف العناصر الواضحة للتغيير مثل التجارة أو الاستعانة بمصادر خارجية وغيرها من العناصر الأخرى المشابهة.
* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"