فاروق جويدة.. الشاعر والمفكر

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

للشاعر فاروق جويدة مكانة خاصة لدى جمهور عريض من متذوقي الشعر العربي الذين يدركون قيمة المعاني والأفكار التي تقف وراء من يكتبون الأناشيد والأشعار. وفاروق جويدة هو كاتب نشيد الجيش المصري الباسل، وقد ارتبط دائماً بالتاريخ الوطني في مصر؛ بل هو واحد من أبرز شعراء العروبة أيضاً، تغنى بأمجادها وطرب معه الناس بأهازيجها. ولقد ربطتني بذلك الشاعر الصديق سنوات طوال من الزمالة والمحبة فنحن ننتمي إلى محافظة واحدة في شمال غربي الدلتا هي محافظة البحيرة، وكان لنا رفاق آخرون صعد منهم اثنان إلى الرفيق الأعلى هما العالم الكبير صاحب نوبل أحمد زويل واللواء الدكتور محمد العصّار أحد رموز الثورة الشعبية من أبناء القوات المسلحة البواسل. وكنت ألتقي مع أحمد زويل وفاروق جويدة نحتسي أقداح الشاي على مقهى الفيشاوي عندما يزورنا العالم الكبير بين حينٍ وآخر فنتحدث في ذكريات الوطن وآماله وأمانيه.
  وكان فاروق جويدة دائماً مصدر إلهام لكل من يجلس معه بسبب وضوحه الظاهر وصراحته المعروفة وشاعريته المتدفقة وعاطفته الوطنية المتأججة. وقد يدهش الكثيرون إذا عرفوا أن فاروق جويدة قد بدأ محرراً اقتصادياً بالأهرام وهو مؤهل لذلك علمياً لسنوات دراسته الجامعية، لكنه استطاع في الوقت ذاته أن يحافظ على علاقته بمملكة الشعر ثقافة وإبداعاً، ونجح في أن يمزج بين المعرفة والعاطفة حتى أنك تحتار كيف تصفه هل هو مفكر أم شاعر، وهو في ظني الاثنان معاً، وأنا أكتب عنه اليوم قارئاً لعموده الشهير في الصفحة الأخيرة بالأهرام والذي يضيف به جديداً لكل من يقرأه، ويفتح أبواب الأمل أمام من يحتاجون إلى الرعاية ويفتقدون الحماية سواء كانت مادية اجتماعية أو إنسانية ثقافية. وفاروق جويدة مصري غيور على المال العام والثروة العقارية المصرية والقصور التاريخية، وهو معني أيضاً بالمشكلات التي تعترض طريق المصريين والعرب كذلك. فهو قومي التوجه وطني النزعة، وقد زاملته في عدد من المحافل الفكرية والثقافية لعل أهمها المجلس الأعلى للثقافة، وكنت أحترم دائماً مداخلاته الذكية وآرائه الصائبة وأطروحاته الجريئة.
    وفي كل يوم جمعة يطالعنا بمقال كبير أقرب إلى الدراسة أو البحث العلمي يذيله بجزء من أشعاره ويتوجه بأبيات رصينة ترتبط بمناسبات معينة في حياة الوطن، ولأن شاعريته رقيقة وكلماته منتقاه فإنه يستقر في وجدان البشر ويبقى في خزينة الذكريات عبر السنين.
    إن فاروق جويدة هو أفضل من كتب عن الحب بمعناه السامي ومفهومه الراقي، وهو الذي ملأ الدنيا أشعاراً وأفكاراً، وعلى الرغم من ذلك فهو مشغول ومعني بمشكلات الناس وما يضايق البشر يكتب عن المأزومين ويتلقى رسائل أصحاب الشكاوى ويبحث عن حلول لها ويخاطب المسؤولين بشأنها، وله حساسية خاصة وشفافية شديدة تجاه إهدار المال العام أو محاولات السطو عليه، ولقد وظف شعره في خدمة الأغراض الإنسانية والأهداف الكبيرة، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
*أولاً: إن فاروق جويدة تعبير عن جيل مصري كامل تخرج في مواجهة نكسة يونيو 1967 وعاش صراعاً حقيقياً بين كاريزما الزعيم ومرارة الهزيمة، فجاءت عباراته تعبيراً أميناً عن مرحلة أليمة في تاريخ الوطن عبّر فيها الشعب المصري عن صموده وكسر حاجز الخوف وأزال آثار العدوان.
*ثانياً: إن انتماء فاروق جويدة - من البداية إلى النهاية – لصحيفة الأهرام هو تعبير عن استقراره النفسي وثبات طموحاته وإيمانه بأنه لا يصح إلا الصحيح، لذلك فإنه أصبح بحق رمزاً من رموز هذه الصحيفة العريقة في عقودها الأخيرة واستطاع أن يشد القراء فكراً وثقافة وشعراً.
*ثالثاً: أضيف إلى ذلك أن فاروق جويدة تعبير عن الريف والحضر عن مصر والعرب عن المحلية والعالمية، لذلك ربطته صلات وثيقة بشخصيات كبيرة أكبر منه سناً من أمثال توفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب ونجيب محفوظ وغيرهم من الأدباء والمثقفين من العقد الذهبي في تاريخ الكنانة.
*رابعاً: إن فاروق جويدة الذي ارتبط بمهرجانات الشعر العربي في مختلف أقطاره هو ذاته صاحب المقالات الجريئة والمواقف السليمة في مناسبات مختلفة ومتعددة، وهو الذي جعل الصحافة في خدمة الشارع ليرفع حاسة التذوق عند القراء ويحلق بهم في آفاق الأماني والأغاني فكان بحق ابن جيله وتعبيراً صادقاً عن عصره ورمزاً من رموزنا الفكرية والثقافية.
*خامساً: إن فاروق جويدة متحفظ بطبيعته عازف عن كثير من مظاهر البهرجة مكتفٍ بقدر كبير من العزلة الهادئة والصبر الجميل، حتى ترى في وجهه هدوء الشعراء الحالمين ونظرات المفكرين الكبار.
   أكتب هذه السطور تحية لواحد من أبناء جيلي يستحق أرفع تكريم وأنا أردد قوله تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، وسوف يظل فاروق جويدة رمزاً حياً في ضمير الفكر والثقافة والشعر والأدب على امتداد الأجيال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"