عادي

عصر المتلقي

23:04 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود
تطورت الأعمال الفنية والأدبية حيث أنتجت أشكالاً وأنواعاً جديدة نتاج التجريب المستمر، وقدمت رؤى مختلفة ومبتكرة، فهنالك الفن التشكيلي المفاهيمي، والمسرح التجريبي، والرواية التفاعلية، وكلها أنماط إبداعية حديثة، ربما كان لتطورها علاقة بالفلسفة بشكل أساسي، وكذلك بالتطور التكنولوجي، فكل هذه الأنواع الإبداعية تعتمد على الأفكار بصورة كبيرة، وأيضاً بتوظيف التقنيات الحديثة، فهي تعبر عن محاولات أكثر من كونها تيارات إبداعية وفنية.
 المعروف أن أي تيار أو اتجاه جمالي أو أدبي جديد لا ينشأ عن فراغ بل يتعلق بمتغيرات المجتمع والعصر، ويمكن القول إن التطور الذي وصلت إليه تلك الأشكال الفنية والإبداعية سيقود إلى تغيير جذري في مفهومي الأدب والفن، وترتبط عملية فهم أو تفسير أو قراءة تلك الأنماط بخبرة المتلقي وذائقته الفنية والجمالية وخلفيته الثقافية، حيث أن تلك الإبداعات تضع مكاناً مميزاً للقارئ والمشاهد والمتلقي باعتباره شريكاً في الفعل الإبداعي.
تنهض فكرة التجريب في المسرح على عملية التطور واستيعاب متغيرات العصر وتجاوز كل ما هو مطروح من الأشكال المختلفة للمسرحية من حيث الشكل أو الرؤية؛ من أجل تقديم أطروحة جديدة، وقد برز مفهوم التجريب في المسرح مع بدايات القرن العشرين، وظهر نتاج الرغبة في التغيير وتطوير المسرح بحيث ينفلت عن الطرق والتقاليد والقوانين والقواعد الثابتة والسمات القديمة، ذلك لأن تطور العصر نفسه يجعل من الأدوات القديمة جامدة وغير مواكبة، وبذلك فإن ذلك الفعل «التجريب»، يريد أن يقدم أطروحة مناقضة للمسرح التقليدي الأرسطي، على مستوى الأفكار والاشتغال والتصورات والمفاهيم، وذلك الفعل يستهدف بصورة أساسية مسألة التفاعلية؛ أي العلاقة مع الجمهور أو المتفرج، لذلك نلاحظ أن التجريب في المسرح قد اشتغل بصورة أساسية على الرؤية البصرية وتقديم شروط جديدة فيما يتعلق بالعرض المسرحي.

الجمهور
يمارس المسرح التجريبي فعل الاقتراب من الجمهور، عبر تغيير الطريقة التي ينظر بها الجمهور إلى المسرح ويقيم علاقة أكثر تفاعلاً مع المتلقي، ويرتبط كثيراً بالدراماتورجيا كما في مسرح اللا معقول ويعتمد في بعض الحالات على السريالية والتعبيرية ومن الملاحظات المهمة أن المسرح التجريبي لا يركز على تكرار العالم الحقيقي بصورة تقليدية، بل على العكس، يعتمد على تقديم طريقة جديدة لعكس الواقع وتجارب الحياة، وطوال القرن العشرين تمت رعاية المسرح التجريبي بأشكال جديدة أخرى من التعبير الفني مثل العروض التي لا تعتمد على مكان محدد ويعمل بشكل أساسي على تفاعل الجمهور الذي يصبح جزءاً من العرض، كما أن التمثيل فيه يتميّز بأدائه مباشرة أمام الجمهور وفي الحياة اليومية، ويجمع المسرح التجريبي بين أشكال فنية مختلفة مثل التمثيل والرقص والموسيقى والشعر وحتى الرسم، إضافة إلى أنه، يسمح بالتلاعب الحر في المساحة ولا يرتبط بهندسة معمارية مسرحية معينة مثل المسرح الإيطالي التقليدي.

رؤية
المسرح التجريبي يعتمد على المتلقي ودوره في العرض، فالمخرج الشهير بيتر بروك، عمل على بناء مسرح لا يكون فيه اختلاف أساسي بين الجمهور والممثلين، فقد لاحظ العديد من المشتغلين في المسرح التجريبي أن الحضور في المسرح التقليدي عادة ما يكون سلبيا، لذلك أراد العديد منهم مثل برتولد بريخت، جعل الشخصية المسرحية تخترق «الجدار الرابع» غير المرئي وطرح أسئلة للجمهور بصورة مباشرة، وهذا يجعل المتلقي يفكر في نفسه ويتفاعل مع العرض، ومن خلال ذلك نلاحظ المكانة الكبيرة التي أولاها المسرح التجريبي للمتلقي في علاقته بالمسرح والعمل على الاقتراب منه من أجل فهم العرض والفعل المسرحي.

 أثر
كان لتطور التكنلوجيا في عصر المعلوماتية والرقمية أثر كبير في الأدب، حيث صار هنالك ما يعرف بالرواية الرقمية، وهي التي تستفيد من الإمكانيات الكبيرة للتقنيات في وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية، فالكلمة المكتوبة لم تعد فقط هي المستخدمة في السرد، فهنالك الصورة والإيموجي والرسوم المتحركة والمؤثرات السمعية والبصرية والروابط التشعبية، بعد أن كانت الرواية لا تعرف سوى التعبير عن الأفكار بالكلمة المكتوبة والمخيلة النشطة، والصورة التي تنحت صورها من معجم لغوي، ولعل من المبكر الحكم على الأعمال السردية التفاعلية، ومدى قيمتها إلا أنها بمثابة مؤشر لتغيير كبير لا محالة سيحدث في عالم الأدب والفنون هو أقرب للانقلاب.

 تعدد
تتعدد أنواع وأشكال الرواية الرقمية التفاعلية، فهنالك النوع الذي يستخدم الروابط المتشعبة ومؤثرات الملتيميديا، أي الوسائط المتعددة، وتسمى رواية «الهايبرتكست»، حيث يقوم بكتابتها شخص واحد يتحكم في مساراتها، فلا يشاركه في عملية الكتابة أحد، ويطلق عليها بعض النقاد «تفاعلية» لأنها تحتوي على أكثر من مسار رابط داخل النص، كما أنها تسمح للقارئ بالاختيار بين المسارات السردية المختلفة التي تحتويها، وهنالك أيضاً الرواية التفاعلية التي تستخدم كذلك الروابط المتشعبة، وبقية المؤثرات الرقمية الأخرى، غير أنها تختلف في أنها تكتب بواسطة أكثر من مؤلف واحد، وتكون مفتوحة وقد تكون مفتوحة لمشاركة القراء في كتابتها، بينما هنالك أيضاً الرواية الرقمية الواقعية وهي كذلك تستخدم الأشكال الجديدة التي أنتجها العصر الرقمي، لتعبر عن العصر الرقمي والمجتمع الذي أنتجه هذا العصر، وإنسان هذا العصر، الإنسان الرقمي الافتراضي.

مميزات
ولعل من أهم مميزات الرواية الرقمية هي إمكانية مشاركة القارئ في كتابتها، وهي بذلك تخلق فهماً وواقعاً جديداً لمعنى التأليف، الذي في ما يبدو يتجه نحو أن يصبح جماعياً، بحيث تكتب الرواية بواسطة عدد من المؤلفين، وكذلك هي تطرح تغييراً جذرياً في مفهوم النص، إضافة إلى التغيير الكبير في التقنيات السردية والأدوات، بحيث لن تصبح الكلمة هي فقط التي ستستخدم في عملية السرد، فهناك الوسائل الأخرى التي أشرنا إليها، والتي تعمل على تفسير وتبسيط النص، ويرى كثير من النقاد أن بناء الرواية التفاعلية مرتبط بمتغيرات منها نوع البرمجيات التي تتيح له تقديم نصه بكل حمولته اللغوية وغير اللغوية، وإمكانات انفتاحه على المتلقي عبر إشراكه في العملية الإبداعية، كذلك متغير التحول من الورقي إلى الإلكتروني، فطبيعة الكتابة المختلفة تجعل نظام التصوير يختلف والأخيلة تتبدل، الأمر الذي ربما يؤثر في جمالية النص، إضافة إلى دخول العلامات غير اللغوية فاعلاً رئيسياً في الرواية التفاعلية وهو الأمر الذي ربما يضيف إلى النص كثيراً.

 تمرد
اللوحات التشكيلية والأعمال والتكوينات الفنية متعددة ومختلفة باختلاف المدارس والتيارات والاتجاهات التي تختلف في أساليبها الفنية، وفي كيفية فهمها وقراءتها، فهنالك اللوحات التشكيلية التقليدية، وهناك الفن التشكيلي الحديث، الذي قد يعبر عبره الفنان عن حالة نفسية أو وجدانية أو فكرية والواقع أن الفنون المعاصرة قد تمردت كثيراً على القيود وأصبح يشمل مختلف الفنون، مثل فن التجهيز والمفاهيمية التي أصبحت موضة العصر. 
ونلاحظ أن الفن المفاهيمي قد تأثر بالدادائية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، وهي التي عبرت عن التمرد والتحرر من القيود والتقاليد، فظهر فن المفهوم نتيجة الاختزال الذي مارسه كل من رواد الفن ألاعتدالي وذلك لتتخطى الأعمال الفنية اللوحة والرسم «التصوير»، حيث أن الفن المفاهيمي ينهض بصورة أساسية على الفكرة، فهو يمنحها أولوية قصوى في طروحاته الفنية، أو في مناقشته للمفهوم، ويسعى نحو إرساء جماليات وأفكار جديدة، وهو بحسب مناصريه إنما يعبر عن روح العصر؛ إذ يحاول أن يلاحق ويطارد ذلك التطور الكبير في القضايا والمفاهيم العصرية، ولفت الانتباه نحو عالمنا اليوم وما يشهده من تفكك واسع النطاق في البنى الايديولوجية والمؤسسات التقليدية والفنون البصرية، بالتالي فإن ذلك النوع من الفن يعمل على التخلي عن المفاهيم التقليدية وتخطي الفن من أجل رؤية جديدة للواقع والتوجه نحو العمل بمادة العالم بشكل مباشر، وهذا النوع من الفن حدسي يتضمن كل العمليات الفكرية، ويتحرر من المهارة الحرفية للفنان حيث تصبح الفكرة هي الهدف الحقيقي للفن بدلاً من العمل الفني والأثر الفني.
وترسخ المفاهيمية فكرة أن الفن يقوم أساساً على ترجمة الفنان فكرته باستخدام أي وسيط يراه مناسباً للتعبير، ويعتمد الفنان المفاهيمي في أدواته على خامات مختلفة وجديدة ربما تكون بديلاً عن الأحبار والألوان، إلى مواد مستخدمة بصورة حقيقية في الواقع، ويعتمد على أسلوب تتعدد فيه الرؤية، كالأسلوب ثلاثي الأبعاد، فهي خروج للمشهد الفني عن التقليديّة وهو يستفيد من فنون ما بعد الحداثة، مثل الكولاج وتوظيف الحاسوب والتكنولوجيا وغير ذلك. 
ويحتل المتلقي في فن المفاهيمية مكانة كبيرة عبر عمليات التفسير والتحليل، ولئن كانت المفاهيمية تقبل التأويل إلا أن ذلك يخضع لشروط معينة من داخل معايير الفن نفسه، بالتالي فإن عملية تفسير وتأويل العمل الفني المفاهيمي تعتمد على خبرة كبيرة للمتلقي، ذلك لأنه يعنى بالأفكار والتصورات.

 مكانة 
يحتل المتلقي مكانة كبيرة في تلك الفنون والآداب الحديثة، على الرغم من بعض الأساليب الغامضة التي تتبعها، إلا أنها تحاول أن تفسر الواقع بصورة مختلفة، وتشرك المتلقي قدر الإمكان، لذلك نستطيع القول إن القاسم المشترك بينها جميعاً هو أنها قد أولت القارئ والمشاهد والمتلقي اهتماماً أكبر بحيث صار هو جزء من العملية الفنية والأدبية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"