عن أي ديمقراطية نتحدث؟

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

د علي محمد فخرو

في كل يوم ينكشف للإنسان ما يصدم بعضاً من قناعاته السابقة؛ فقد قرأت مؤخراً كتاباً للصحفي والكاتب الإنجليزي، وهو أحد كتّاب جريدتي «الغارديان» و«نيويورك تايمز»، أوليفر بولوغ وتحت عنوان «رئيس الخدم للعالم» (Butler to the world).

وهو كتاب يحكي دخائل وأسرار انقلاب بريطانيا منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، عندما انهارت كامبراطورية تتحكم في ربع مساحة وشعوب العالم وأصبحت كأي بلد أوروبي آخر في الوزن والقدرات، إلى ممارسة مهنة رئيس الخدم في أمور المال وشتى الخدمات المشبوهة الأخرى.

أولاً: غضّت الطرف عن بنوكها في لندن ومؤسسات المحاماة والبعض من رجال الشرطة وحتى بعض أعضاء البرلمانات النافذين، بأن يقدموا خدمات قانونية ومالية بنكية ونصائح مشبوهة، لكل من يريد التهرب من دفع الضرائب أو من سرقة أموال بلاده العامة، ممن كان رئيس بلد فاسداً ومن كان رئيس مافيا إجرامية أو من كان يعيش على تبييض الأموال أياً كان مصدرها، طالما أن أولئك الفاسدين يدفعون عشرة في المئة من ذلك المال المنهوب، كثمن للحصول على تلك الخدمات والنصائح غير القانونية.

ثم بعد أن ترسخت تلك التجارة، أصبحت مصدر عمالة للألوف من البريطانيين ومصدر ثروة هائلة للبلاد، أعطت الحق والحرية للجزر والمناطق التابعة للتاج البريطاني، من مثل جزر فيرجن البريطانية أو جزيرة كيمن، لممارسة تلك التجارة تحت مسميات كثيرة وبطرق ملتوية، لتصبح تلك الأماكن جنات لكل مال فاسد أو منهوب أو متستر، حيث لا ضرائب والكتمان والأقنعة الحامية عن أي رؤية أو معرفة من أية جهة متطفلة.

تلك الخدمات قدمت للفاسدين في معظم بلاد العالم. الخدمة كانت متوفرة لكل من يدفع، دون سؤال أو تأكد أو شكوك. ويذكر المؤلف أمثلة وقصصاً يندى لها الجبين.

النقطة الأساسية في هذا الموضوع هي أننا كنا نعتقد أن الديمقراطية، خصوصاً إذا كانت قديمة وراسخة وكانت مثالاً للبشرية كالديمقراطية البريطانية، ستمنع وجود مثل تلك التجارة والممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية، أو على الأقل ستجعل وجودها محدوداً أو كشفها سهلاً، أو لن تشمل رجال قضاء وقانون وتشريع. أما أن تكون بالصورة التي أظهرها الكاتب، وأن توجد عبر سبعين سنة دون أن يوقفها قانون أو صحوة ضمير أو انزعاج ورفض من قبل مؤسسات المجتمع المدني، فذلك يمثل إشارة واضحة لعجز في النظام الديمقراطي الذي كنا نعتقد أنه أحد أهم أعمدة حماية المجتمعات والصالح العام والقيم الأخلاقية.

ولكن هل تلك الصدمة لا تشير إلى سذاجتنا نحن؟ فضائح الأخطاء والممارسات التي ترتكبها الدول الأوروبية الديمقراطية وأمريكا الديمقراطية في موضوع أوكرانيا وحربها العبثية، ألا تزكم الأنوف؟ ألا تشير إلى عجز غريب في ديمقراطيتهم؟ وفي أمريكا، عندما يكتب جورج مونبيوت في كتابه «للخروج من الدمار»، وهو يقصد دمار الحياة السياسية والاقتصادية في بلاده، أن نظامهم الديمقراطي مملوء بسوء الاستعمال وأنه يقوي الأقوياء والمسيطرين ويضعف الضعفاء والمهمشين بدلاً من أن يفعل العكس، ألا يؤكد أنه ما عادت هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية عادلة في أعرق الديمقراطيات الغربية؟

ما يهمنا، نحن العرب، أن يدرك المعتقدون بأن الديمقراطية وحدها هي المدخل لحل كل مشاكلنا، وعليه فإن الحل الديمقراطي ليس بالحل السحري إلا إذا حددنا بصورة واضحة مكونات الديمقراطية والأسس التي تقوم عليها عبر القيم الإنسانية والأخلاقية التي تحكمها، والممارسة التي تتجنب وترفض وتحارب انتهاءها، وإنما بقاءها أداة فاعلة وعادلة في يد أغلبية المواطنين الواعين المتابعين لسيرورتها طوال النهار والليل لخدمتهم وكرامتهم الإنسانية.

بدون ذلك سنعيش أوهاماً بليدة، تماماً كما تعيشها الكثير من أنظمة الديمقراطية في العالم، وكما أرانا هذا المؤلف في كتابه المبهر.

 

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2nkk645y

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"