مفهوم الدولة وتفريعاتها

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

منذ مطلع تسعينات القرن المنصرم التأمت في جامعة أكسفورد (بريطانيا)، باقة مؤتمرات سنوية، ركّزت على الديمقراطية من زواياها المختلفة، نظرياً وعملياً، خصوصاً تسليط الضوء على بعض التجارب والممارسات في السلطة وخارجها. وكانت هذه الأنشطة مبادرة من الراحل د. رغيد الصلح، ومن علي خليفة الكواري، أمدّ الله بعمره، وناقشت سلسلة المؤتمرات هذه الديمقراطية كمفاهيم وآليات وممارسات، بما هو معلن من أفكار وما هو مضمر ويندرج ضمن الباطنية السياسية، أو التكتيكات السياسية، حسب ما تذهب إليه القوى اليسارية والقومية.

ومن هذه المؤتمرات المهمة كان المؤتمر الذي تناول مواقف الأحزاب الدينية (الإسلامية) من الديمقراطية، ورؤيتها النظرية وواقعها العملي، خصوصاً بعد أن أعلن بعضها قبوله بآليات الديمقراطية وسيلة للوصول إلى الحكم الإسلامي المنشود، وفقاً لتصوّراتها، بعد أن عجزت عن تغيير الأوضاع واستبدالها بما يتلاءم مع توجّهاتها، فلم يبق أمامها إلّا القبول بقواعد اللّعبة الديمقراطية التي بدأ سوقها يروج منذ أواخر الثمانينات بعد الإطاحة بأنظمة أوروبا الشرقية، وانحلال الاتحاد السوفييتي فيما بعد، وانتهاء عهد الحرب الباردة السابق 1946 – 1989 وبداية عهد جديد من الصراع الأيديولوجي العالمي حين اعتبرت القوى الليبرالية الجديدة المنتصرة أن الإسلام يشكّل «العدو» الأول الذي ينبغي ترويضه تحت يافطة مكافحة الإرهاب الدولي.

الاعتراف بالديمقراطية من جانب التيارات الإسلامية بدا خجولاً ومتردّداً وحذراً، ومع ذلك، فإنه شكّل انعطافاً جديداً في قناعة وتكتيك جماعات الإسلام السياسي، خصوصاً وأن الكثير من عناصره والعديد من قياداته عاشت في الغرب وشاهدت مدى التطوّر الذي وصل إليه بفضل نظام الحكم والخدمات التي يحصل عليها المواطن، إضافة إلى الحريّات. ولم يمرّ ذلك من دون أدلجة بالطبع فأخذت بعض التنظيرات تقول إن الدولة الدينية غير موجودة في الإسلام، ولم تقم في يوم من الأيام بما فيها دولة الخلفاء الراشدين، وصولاً إلى الدولة الأموية، والعباسية، والعثمانية، فهذه كلّها دول مدنية حتى إن كانت مرجعيّتها الفكريّة الإسلام.

ومثل هذا «التطوّر»، وإن بدا مفهوماً بحكم الموجة العارمة التي اجتاحت العالم، إلّا أنه أشعر بعض الإسلاميين، خصوصاً المجموعات المتعصّبة والمتطرّفة بالحرج الشديد، كأنها انحازت إلى أفكار خصومها التي كانت تدمغها بأسوأ الصفات وتكفّرها، وتفسّقها حتى وقت قريب بزعم عدم تمسّكها بالثوابت وتنكّرها لتاريخ الأمة وخصائصها، فالدولة حسب هؤلاء تستمد شرعيّتها من الله، وكتابه، والسنّة، وأحكام الشريعة الأخرى، فكيف يمكن قبول مبدأ الانتخابات؟ وهذا الآخر يعتمد على «خيارات الناس» التي هي الأساس في الشرعية. وإن حاول البعض التوفيق بين الشورى والديمقراطية وبين الانتخابات ونظام البيعة في إطار تفسير جديد يخفف من سقف التشدّد السابق.

ومثلما ظهرت في الخمسينات محاولات للتوليف بين الاشتراكية والقومية والإسلام، فإن مثل هذه المحاولات تستمر اليوم للقول إن: الديمقراطية اليوم ليست في تعارض مع الإسلام، ومثلما فشلت محاولات «أشركة الإسلام» أو «أسلمة الاشتراكية» أو «عوربة الإسلام» أو «أسلمة العروبة»، فإن محاولة «دمقرطة الإسلام» أو «أسلمة الديمقراطية» هي الأخرى محاولات توفيقية لا تصل إلى مرادها المقصود بتوليفة هي بالأساس تتحدّث عن حقلين مختلفين، فالديمقراطية نظام حكم يتم فيه انتخاب الناس من يمثّلهم بشكل حر ودوري، وهو حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية، ويتوجّب توفر عناصر مختلفة منها، استقلال القضاء، وفصل السلطات، والإقرار بالتعدّدية والتنوّع والحريّات العامة والخاصة.

ومثل هذا النظام يقوم على الاجتهاد والتوفيق بين القدامة والحداثة، بما فيها من نصوص مقدّسة، فالعقل هو الأساس وليس النقل.

الدين يقوم على المطلق، خصوصاً بمثل هذه القراءات، في حين أن الدولة تقوم على النسبي، وهذا الأخير متعدّد ومختلف ومتغيّر في الزمان والمكان وقابل للإضافة والحذف والتغيير والتطوير، في حين أن التعاليم الدينية أو النقلية تكاد تكون ساكنة أو راكدة أو مستقرّة على كثر تداول الاستعمال بشأنها، وإن كانت أحكاماً بشرية، تنسب إلى الله.

إن إدارة شؤون الدولة أمر دنيوي وليس دينياً، عبر قوانين تنسجم مع روح العصر، وهذه تحتاج إلى مراجعة وتغيير وتطوير كلما وجدت حاجة إلى ذلك، وهي بالأساس تجريبية متحرّكة، لأنها ليست نهائية أو سرمدية أو ثابتة.

الدين أيديولوجيا، أما الديمقراطية فهي سياسة، وهذا لا يعني حرمان القوى والتيارات الدينية من ممارسة حقها السياسي المشروع في الوصول إلى الحكم، ولكن أولاً وقبل كل شيء ينبغي عليها التخلي عن العنف، واعتماد الآليات الديمقراطية للوصول إليها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ts283mt

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"