تأملات في اليوم العالمي للمعلم

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

يحتفي العالم في الخامس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، باليوم العالمي للمعلم، الذي تم إقراره منذ عام 1994 بناء على توصية من هيئة «اليونيسكو»، ومنظمة العمل الدولية، وتمثل هذه الذكرى التي اعتمدتها الكثير من دول العالم بشكل رسمي، فرصة لاستحضار أدوار وجهود هذه الفئة داخل المجتمعات، ومناسبة للالتفات إلى مختلف المشاكل والإكراهات التي تواجههم.

يمثل المعلم أحد المرتكزات التي تقوم عليها منظومة التربية والتعليم، وأحد العناصر الداعمة للحق في التعلّم. ولا تخفى جهود هذه الفئة من أهمية على مستوى تربية وتنوير وتكوين النشء، وتطوير المجتمعات، ذلك أن الكثير من الأجيال تدين لها بالامتنان.

وما زلت أتذكر، وأنا طفل عند بداية ولوجي للمدرسة في إحدى القرى النائية، كيف مثّل لي المعلم الدليل الذي أطلّ من خلال ما أتلقاه وزملائي منه، على العالم بأحداثه وقضاياه المختلفة، فقد كنا ننظر إليه كملقن ومربٍّ وأب، واحترامه الواجب لا يقف عند أسوار المدرسة، بل يتجاوز ذلك إلى الخارج. وتحتفظ ذاكرتي بوجوه عدد من الأساتذة والمعلمين الأفاضل، رجالاً ونساء، وأدين لهم بالكثير من العرفان، لما رأيته ولقيته منهم في كل مراحل تعليمي الأساسي، والثانوي، والجامعي.

فذات يوم، وبعد أن انتهيت من تقديم محاضرة في أحد اللقاءات العلمية، اقترب مني أحد الحاضرين، وكان رجلاً متقاعداً، وهمس في أذني: «لقد ذكّرتني هذا اليوم، وأنا أتابع مداخلتك وطريقة إلقائك، بأستاذ كنت أحضر حصصه بالجامعة قبل أربعة عقود، وهو د.عبد الله اعديل، تغمده الله برحمته»، فأجبته باندهاش وافتخار: «إنه أستاذي الذي أشرف على أطروحتي على امتداد سنوات عدة، وكان نعم الأستاذ، علماً وأخلاقاً، وما رأيته مني هو تعبير صادق وتلقائي لحبي وتقديري ووفائي لهذا الرجل الذي ترك في داخلي الكثير من الأثر».

فعلاوة على العملية التعليمية التي يزاولها، لا تخفى جهود المعلم في ما يتعلق بترسيخ القيم الدينية والثقافية، والتربية على الحوار، وعلى احترام الرأي الآخر، ونبذ السلوكات المتطرفة والعنيفة، والتربية على المواطنة، بما تحيل إليه من حقوق وواجبات.

لقد حظي المعلم بمكانة مهمة في الكثير من الحضارات الكبرى التي بصمت تاريخ الإنسانية بإسهاماتها العلمية والفكرية، حيث أولته عناية كبيرة، اعتباراً الأدوار التي يقوم بها، على مستوى التربية والتلقين والتكوين وتطوير المهارات.

ومن منطلق الدور المحوري الذي يقوم به المعلم داخل المنظومة التعليمية والتربوية، أولاه الإسلام، كما باقي الديانات السماوية، مكانة مهمة داخل المجتمع، بل وأحاط مهامه بقدر من القدسية والاحترام، انسجاماً مع جهوده في ما يتعلق بتنوير النشء وتلقينه مختلف العلوم والثقافات، وتوجيهه نحو نور الفكر والمعرفة.

وقد حرصت كل من منظمة العمل الدولية، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم (اليونيسكو)، منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، على طرح مجموعة من التوصيات الداعمة لعمل المعلمين، حيث تم التأكيد على أهمية توفير شروط عمل مناسبة تليق بمهام التربية، ومنح وظيفة التعليم المكانة التي تستحقها من لدن السلطات العمومية، والتي تشجع فعالية العملية التعليمية، وتتيح للمعلم الانكباب على مهامه في أحسن الظروف. مع الاعتراف للهيئات التمثيلية للمعلمين بالمساهمة في تطوير النظم التعليمية والتربوية، وفي رسم السياسات العامة ذات الصلة بهذا الخصوص.

إن تعزيز مكانة المعلم داخل المجتمع، لا تتأتى فقط من خلال المبادرات التي يمكن أن تقوم بها الدولة في هذا الخصوص، بل وفي ارتباط ذلك بتحسين الوضعية المادية لهذه الفئة، أو توفير الشروط القانونية والإدارية والتقنية لاشتغالها في ظروف إنسانية ومناسبة، بل يتجاوز ذلك إلى إرساء ثقافة تؤمن بأهمية ومكانة العلم وبرسالة التعليم، والثقة بدور المعلم على مستوى المساهمة في تطوير المجتمعات.

وجدير بالذكر أن منح المعلم الاهتمام والعناية المطلوبين، هو ترسيخ لثقافة الاعتراف بالجميل، ومدخل أساسي لإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة في زمن طغت فيه التفاهات والشعبوية مع تطور وسائل الاتصال الحديثة وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي.

إن المراهنة على المعلم كمكوّن للأجيال، هي مراهنة على العلم والأخلاق في كسب رهانات التقدم والاستئثار بمكانة لائقة بين الأمم، فقد أولت الكثير من الدول العناية الفائقة للمعلم، احتراماً لرسالته، وتكريماً لجهوده، ومراهنة على دوره في إعداد الأجيال الصالحة الكفيلة بتحقيق التطور والنمو، ما ينطبق على عدد من الدول المتقدمة، كاليابان والنرويج.. والتي تحرص على تطوير مهارات المعلم، وتحفزه على القيام بمهامه على أحسن وجه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3p3eufs6

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"