عادي
ثلاث حكايات من الصحراء العربية

«سلوم العرب» الإماراتية.. سرديات تعكس القيم البدوية

23:37 مساء
قراءة 5 دقائق
جانب من العرض
جانب من العرض
جانب من العرض

الشارقة: علاء الدين محمود
في أول عروض الدورة السادسة لمهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، ضرب الجمهور موعداً مع المتعة والإثارة والتشويق والفرجة المميزة في ليلة دولة الإمارات العربية المتحدة، من خلال مسرحية «سلوم العرب»، لفرقة مسرح الشارقة الوطني، وهو العمل الذي شهد لقاء نخب مسرحية إماراتية متميزة على جميع مستويات الفعل الدرامي، فعلى مستوى النص والأشعار، نجد أن الكاتب هو المسرحي المعروف سلطان النيادي، أما مخرج النص فهو محمد العامري، صاحب الروائع المسرحية، ويبدو أن قوة العمل الأساسية تكمن في ذلك الحشد الكبير لممثلين من طينة الكبار مثل: أحمد الجسمي، وإبراهيم سالم، ومرعي الحليان، ونبيل المازمي، وعلي مانع الأحبابي، ومحمد الكعبي، وعبد الله الجروان، ونخبة من نجوم المسرح.

المسرحية تتحدث في الأساس عن «سلوم العرب»، وهي الصفات الحميدة التي اختصوا بها من خلال طريقة حياتهم وعيشهم، التي تقوم على الفضائل العظيمة والقيم السامية التي تحض على التعاون، والكرم، والتجرد ونكران الذات، ومساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وغيرها من القيم التي صارت سمة للعربي والبدوي على وجه الخصوص؛ إذ تظل نار مضاربهم مشتعلة ترشد الضال، وتأوي ابن السبيل والجائع والمحتاج، فتلك القيم قد تشكلت في تلك الصحراء التي صارت مسرحاً للكثير من القصص والحكايات والمواقف التي ترويها أيام العرب، فأصبح إنسانها رمزاً للشجاعة والبسالة والإقدام والكرم؛ حيث إن العمل يغوص في تلك القيم من حيث تناوله للبيئة البدوية في الإمارات، حيث المجتمع الذي يحتكم للعادات والتقاليد النابعة من الموروث، ويلتقط العرض الكثير من التفاصيل ليشكل من خلالها لوحات ومشهديات عالية.

الكرم والشجاعة

تقوم قصة العرض وفكرته على ثلاث حكايات عربية من البيئة الصحراوية البدوية، وهي قصص غنية بمعاني الكرم والإقدام والشجاعة والإيثار، وهي تعكس حياة هؤلاء العرب وما يتّسمون به من طيبة النفس، والعزة وإباء الضيم، وحب العدل، ويلعب الممثل الكبير أحمد الجسمي «سيف»، دور الراوي، الذي هو بمنزلة حلقة وصل بين المتلقي وعوالم تلك الحكايات؛ حيث ينقلنا بخفة وأدائية درامية مميزة إلى فضاءات تلك القصص، خاصة أن الجسمي يتميز بمقدرات صوتية كبيرة، ويحكي عن تلك الحكايات من خلال مجلس عربي يحضره عدد من الأشخاص يمارسون عبره فعل سرد الحكايات العربية والنوادر في حياة العرب، فتلك القصص تخبرنا أن تلك الصحراء لم تكن ساكنة كما تبدو رمالها وصورتها، بل كانت حية بالنشاط الإنساني والاجتماعي، وحافلة بالصراع بين من يمثلون الأخلاق النبيلة، وأولئك الذين يقفون على الجانب الآخر، بالتالي هي حكايات نابضة تسجل ما يجري في تلك المساحات الشاسعة وتحتفظ به لأجيال قادمة، فهي تحفظ الهوية والموروث والخصوصية العربية.

والقصص الثلاث، التي ينهض عليها العرض، والتي جرت في صحراء بادية العرب، تحمل الكثير من القيم والمعاني والحكم، إضافة إلى أنها صورة لما كانت عليه حياة البادية في السابق، وتتناول الصراع بين الخير والشر، تلك الثنائية الأزلية، وكيف أن الخير ينتصر في النهاية، ولكن تبقى الكثير من الآثار والندوب، وفي ذات الوقت تخرج لنا أي حكاية بمعانٍ صالحة للتدبر والتأمل؛ حيث تتناول القصة الأولى، التي جاءت بعنوان «حي يرثي حي»، قصة فارس يدعى «ذيب»، اشتهر بالمروءة والكرم ونجدة المستغيث، وكان والده شديد الإعجاب ببسالته وفضائله وصفاته النبيلة، ولكنه كان يخشى عليه من الموت في سبيل تلك القيم التي كان يؤمن بها، فقال فيه قصيدة هي أشبه بالنعي والرثاء، وقد صدقت نبوءة ذلك الأب، ففي أحد الأيام خرج ذيب كالعادة لنجدة قوم استنصروا به وطلبوا عونه، فاستجاب لهم، لكنه قتل وهو يدافع عنهم، وجاءوا بالخبر إلى قومه، فتذكروا قصيدة والده التي رثى فيها ابنه، بأبيات هي من عيون الشعر النبطي، لما تحمله من جزالة المفردات وقوة المعاني؛ حيث إن القصيدة هي فيض من الجمال وتحتشد بوصف حزين يثير البكاء والشجن، حيث يعدد الأب فيها السمات والقيم الفاضلة التي كان يتحلى به ابنه من صفات الشجاعة والقوة والبأس، وغير ذلك من المعاني السامية، التي هي في الأصل صفات كل فارس عربي.

رجل باع عمره

والقصة الثانية هي بعنوان «رجل باع عمره»، وتتحدث عن «عمران»، وهو زعيم قوم من العرب، اتصف بالشجاعة والكرم والنبل، وكان يعطي بغير حساب، فتبدلت أحواله من بعد العز إلى فقر وفاقة، وفي أحد الأيام أخبرته زوجته أن هناك ضيوفاً قادمين إلى المضارب، فنزل عليه الخبر كالصاعقة، وتراكمت الأسئلة من فوق رأسه، كيف يكرمهم، وهو لا يملك من المال والحلال شيئاً؟ فكان أن اهتدى إلى فكرة؛ حيث تنكر في صورة أحد الموالي من أجل أن يكرمهم، ولكن القوم شكوا في سلوك الرجل، فهو يتمتع بأدب ونبل الزعماء وأسياد القوم، وطلبوا منه أن يكشف عن هويته وإلا فإنهم سيقومون بقتله، فكان أن كشف عمران عن نفسه وأصله لهم بعد تهديدهم له، فتأثر الضيوف تأثراً شديداً، وأعجبوا بشخصيته، وتحدثوا عنه حديثاً طيباً، ووصفوه بأنه أكرم العرب، وأنه امتداد لشخصية حاتم الطائي؛ حيث أن أمثال حاتم لا يموتون، لأن الصحراء تنجب مثل هذه الشخصيات التي تنهل من ثقافة ومورث العرب، فأقسم القوم بأن يتبرعوا بنصف ما لديهم من مال وحلال، ولكن الرجل الكريم رفض تلك العروض، والقصة حافلة بالمعاني الفاضلة التي تحث على الكرم.

أما القصة الثالثة فهي تحكي عن الأخوين سناد وعناد، فبعد موت والدهما، أصرّ الأصغر «سناد»، على أن يأخذ ورث أبيه كاملاً ولا يترك شيئاً لأخيه، وتدخل القوم ليثنوا هذا الأخ عن طمعه، ولكن بلا طائل، بل قام سناد بقتل شقيقه مستعيناً بعصبة من قومه، ليكتشف بعد ذلك أن كل ذلك النعيم الذي يعيش فيه هو من خير أخيه المقتول غدراً، فندم على فعلته ندماً شديداً، والقصة تحمل الكثير من المعاني في مقدمتها رفض الظلم والطمع الذي لا يخلف غير الندامة.

ونجح النيادي في تقديم نص يعبر بالفعل عن التراث الصحراوي وقصصه وحكايته؛ حيث إن محتوى النص جاء متناغماً مع طبيعة المهرجان وتناول المفردات الثقافية والبيئية من التراث البدوي والصحراوي.

حلول

العامري قدّم العديد من الحلول والرؤى الإخراجية المميزة التي رفعت من قيمة العرض الذي قدّم في فضاء مفتوح وهو أمر يصعّب كثيراً من مهمة المشتغلين بالمسرح؛ حيث إن زاوية الرؤية تكون مفتوحة على كل الاتجاهات، وذلك يتطلب جهداً إبداعياً مضاعفاً من قبل المخرج، من أجل تقديم رؤية جمالية مختلفة ومبتكرة، وذلك ما أفلح فيه العامري؛ حيث كان الديكور ينتمي بالفعل إلى البيئة الصحراوية من أزياء والعديد من المفردات الأخرى، حيث إن الناظر يجد نفسه أمام واقع صحراوي حقيقي تنتشر فيه الخيم والإبل والخيول، ونجح المخرج في تحريك كل تلك المجاميع بحركة منضبطة؛ إذ إن عدد الممثلين يقارب ال 20 ممثلاً، وكان للموسيقى، والأشعار النبطية والشعبية، والأهازيج، دور كبير في صنع حالة جمالية متألقة وبديعة، خاصة «الشلات»، التي قام بأدائها الشاعر محمد البادي، وكذلك كان فعل السينوغرافيا مميزاً، وتوزيع الإضاءة عبر الإسقاط بصورة واضحة تبرز التعبيرات والانفعالات.

وجاء الأداء التمثيلي المميز ليكمل تلك اللوحة البديعة، خاصة من قبل الممثلين: إبراهيم سالم، ومرعي الحليان، حيث قدّم العرض فرجة مختلفة، تفاعل معها الجمهور كثيراً، من خلال الحوارات العميقة والأدائية المميزة.

جمهور

وتميز العرض، بالحضور الجماهيري الكبير والمميز، وذلك بطبيعة الحال لأن المهرجان نفسه ينتمي إلى البيئة المحلية الصحراوية ويعبر عنها، وكانت المتعة حاضرة في صورة ذلك التجاوب بين العرض والمتلقين، الذين استمتعوا بالفعل بالقيمة البصرية والجمالية في العرض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5cva9rsw

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"