عادي

الحرف.. عشق البصر

23:14 مساء
قراءة 3 دقائق

الشارقة: عثمان حسن

ينطلق الخطاط السوري د. محمد فاروق الحداد في أعماله الحروفية من معرفة عميقة بأصول الخط في أنواعه كافة، خاصة الثلث والنسخ والديواني، كما ينطلق من معرفة أكثر بالأبعاد الروحية لطاقة الحرف في العقل والوجدان الإسلامي، وبناء على ذلك فإن حروفياته في مجملها، تشع بالإبداع والتنسيق الفني الآسر، وهو إبداع ينطلق من تجريد الحرف، والحداد له تفسير جميل لفن الخط العربي حيث يقول: «الخط العربي شيء تجريدي، أظهره العقل بواسطة القلم، فلما قابل النفس، عشقه البصر، فالخط هنا، هندسة الروح، وبهجة الضمائر، ووحي الفكرة، وسلاح المعرفة، ولسان اليد، وسفير العقول، ومزمار المعاني، وناقل الخبر، وحافظ الأثر».

1

هذه المعاني والدلالات الأثيرة إلى النفس، يترجمها حداد في معظم أعماله الحروفية كما هو في اللوحة الحروفية التي يستخدم فيها الآية القرآنية «وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً...» حيث تقع عين المشاهد على تشكيل حروفي مبتكر يعزز طاقة الحرف، ويبرزه بصيغ بصرية غاية في الجمال.

اللوحة الحروفية التي نشاهدها، هي لوحة تشكيلية عمادها الخط العربي، والتي احتاجت من الحداد إلى وعي مبصر بطاقة الحرف، والحرف في هذه اللوحة يحاور الحرف، ويعانقه، ويشكل معه تكويناً جمالياً خاصاً، يجعلنا نستشعر أبعاد وتجليات العناصر التي تشكل في مجموعها تكوينات وتراكيب وبنى إيقاعية هي بمثابة وحدة نظامية تستند إلى قيم ثابتة في المفهوم الإسلامي بل هي تستلهم قوتها ومرجعياتها من الفلسفة العربية الإسلامية. من يدقق في اللوحة يلحظ مجموعة من العناصر الجمالية التي يتميز بها الخط العربي خاصة الثلث والجلي من حيث التناظر والتماثل والتكرار، ففي رأس اللوحة حرص الحداد على تقديم تشكيل حروفي تزييني من حرفي الألف واللام، وها هما يتضافران ليشكلا معاً ما يشبه المئذنة.

من جهة ثانية، يحرص الحداد على تقديم جماليات حرف الألف، الألف في «أنزلنا» والألف في «الماء» وأيضاً في «المعصرات» ويقدم هذا الحرف بأسلوب متناظر ومتماثل أيضاً، أما في منتصف اللوحة، فيقدم الحداد صورة جمالية لحرف الجيم المتكرر في كلمة «ثجاجا»، هذه الجيم التي تبدو مدهشة في الجمال والتكرار، والتي تجد صورتها في حرفين متكررين ومتجاورين يخلبان نظر المشاهد وهو يتابعهما يستلقيان في حضن حرف التاء في كلمة «المعصرات».

تشكيل

كثيرة هي التشكيلات الجمالية في هذه اللوحة، التي بذل من خلالها الحداد جهداً مضاعفاً يترجم من خلاله لغة الحرف، أو صوت الحرف وطاقته، ويحيله إلى منطق جمالي وفكري بأبعاد وقراءات روحية عالية، وهذه القدرة على إبراز الحرف بهذه الكيفية من المعرفة والدراسة الواثقة في فنون الخط العربي، دفعت الحداد، كما هو في هذه اللوحة إلى ابتكار مقترح تشكيلي بصري استثنائي، يعزز من مكانة الخط بوصفه مكوناً جمالياً وفكرياً، وبوصف الحرف ذاته قابلاً للتشكيل الجمالي، الحرف هنا، هو ملهم، وهو جسد، وفضاء تعبيري يتوالد من المعايشة والإحساس، ومن جلد الفنان وصبره وتجلياته ومعرفته بأسرار وطاقة الحرف، التي تحتاج إلى مهارات استثنائية، لا تتوفر إلا عند الخطاطين المبدعين والمؤثرين.

يضيف الحرف في هذه اللوحة إمكانيات كبيرة للإبداع والتطوير، الحرف مجرداً ببعده الكوني السابح في الملكوت، والحرف مشكلاً ببعده الجمالي والبصري الظاهر في جسد اللوحة، وهو جمال يسافر بالمشاهد في آفاق رحلة إنسانية وروحية رحبة، لكي تستريح معها النفوس والقلوب، من خلال هذا العبق الفني المدهش من توليفة الحرف والخط ورمزيته في الفنون الإسلامية الخالدة وعوالمها الروحانية المتشبعة بالنور والعبق والعظمة.

محمد فاروق الحداد، خطاط تمرس في الجلي الديواني، والثلث الجلي المركب، معروف بتنفيذه لتراكيب خطية لافتة من حيث الجمال والإيقاع والتكوين، وقد حصل على أكثر من 13 جائزة دولية في مسابقات الخط، في أكثر من دولة عربية وإسلامية، بينها أكثر من 7 جوائز متخصصة في فنون الخط من الإمارات، وهو يعمل مدرساً لفنون الخط العربي في مركز الشارقة للخط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/23vk5yba

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"