فرنسا وأزمات الجمهورية الخامسة

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

في برنامجه الانتخابي، للترشّح مرة ثانية للرئاسة، كان رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، أحد البنود الرئيسية التي خاض إيمانويل ماكرون الانتخابات من أجل تحقيقها، وفي ديمقراطية قوية وممتدة، كما في الحالة الفرنسية، فإن فوز أحد المرشحين بالرئاسة، يعني القبول ببرنامجه الانتخابي، وتحويل بنود هذا البرنامج إلى قوانين، لكن واقع الاحتجاجات الفرنسية المتواصلة في رفضها لإقرار قانون رفع سن التقاعد، يفصح عن وجود مشكلات في النظام السياسي الفرنسي، خصوصاً أن فوز ماكرون بالانتخابات في عام 2022، كان لتفادي فوز المرشّحة اليمينية مارين لوبان، التي كان فوزها، سيعني انتكاسة كبيرة في تاريخ الديمقراطية الفرنسية.

 تأسست الجمهورية الخامسة الفرنسية في عام 1958، على وقع انهيار الجمهورية الرابعة ذات طابع الحكم البرلماني، بعد معاناة مريرة في سقوط الحكومات، لعدم القدرة على تأمين الدعم البرلماني الكافي لاستمرارها، وهكذا تمّ الانتقال إلى نظام شبه رئاسي، في ظل نظام دولي ثنائي القطبية، محكوم بحرب باردة بين غرب رأسمالي، وشرق اشتراكي، لكن فرنسا، وعلى الرغم من كونها جزءاً لا يتجزأ من الغرب، كان التيار الاشتراكي، بتنوعاته الأيديولوجية العديدة، حاضراً بقوة فيها، ووصل إلى سدّة الرئاسة أكثر من مرشّح من الحزب الاشتراكي، كما بدأ عدد من الرؤساء حياتهم السياسية في هذا الحزب.

 منذ ستينات القرن الماضي، وإلى مطلع تسعيناته، كان الصراع السياسي في فرنسا، وفي قلبه الصراع الأيديولوجي، متأثراً بالمناخ الدولي، وبصراع النموذجين الرأسمالي والاشتراكي، مضافاً إلى ذلك وجود ديناميات اجتماعية تاريخية، تستند إلى إرث الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة)، كل ذلك، منح الحياة السياسية جرعة كبيرة من الحيوية، والقدرة على التأثير الخارجي، وهو ما جعل القوى السياسية الفرنسية، على الرغم من تبايناتها الأيديولوجية، أو برامجها الانتخابية المختلفة، حريصة على نموذج الجمهورية الخامسة، بوصفه نموذجاً ضامناً للاستقرار السياسي الداخلي.

 في العقد الماضي، بدا أن الحياة السياسية الفرنسية مأزومة بخياراتها، خصوصاً مع عدم قدرة الأحزاب التقليدية على توليد زعامات كبيرة، وتحوّل معظم التيار الاشتراكي إلى نضال مطلبي، لا يختلف كثيراً عن النقابات، بل تتفوّق عليه النقابات في نضالها وحراكها وقدرتها على التفاوض مع أرباب العمل أو الحكومة، مع الأخذ بالحسبان أن موجة العولمة أسهمت في توليد ديناميات رأسمالية عابرة للحدود القومية، لم تعد معنية كثيراً بتطوير استثماراتها في البلد الأم، وفي بلد مثل فرنسا، أدى خروج الكثير من الرساميل الوطنية من الاستثمار المحلي، والعمل المباشر، إلى مشكلات حقيقية للاقتصاد الفرنسي، بل للدولة نفسها، التي لا تزال، من ناحية التعريف، دولة الرعاية.

 في بضع سنوات، عرفت فرنسا حركتين احتجاجيتين واسعتين، الحالية الرافضة لقانون التقاعد الجديد، وحركة «السترات الصفراء» في 2018، وارتفاع المدّ الشعبوي السياسي، الذي تتوّجت قوته في حصول اليمين «الجبهة الوطنية» على أكثر من 40% من أصوات الناخبين في انتخابات 2022 للرئاسة، في الوقت الذي تعاني فيه أوروبا أزمات كبرى، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، التي تركت بصمات قاسية على مجمل الخزائن المالية الأوروبية، وعلى الحياة المعيشية المباشرة للمواطنين، في ظل موجة تضخّم عالمية، والأسوأ ربما، أن منظومة الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي، تواجه أسئلة كبرى، من أجل إعادة تعريف مصالحها وبناها العسكرية والأمنية من جديد.

 منذ سنوات، يزداد النقاش في فرنسا حول مدى قدرة النظام السياسي للجمهورية الخامسة على الاستمرار كما هو، ليس فقط بسبب تضخّم المشكلات الداخلية، بل أيضاً بسبب التحدّيات الخارجية.

 ميزة فرنسا التاريخية تكمن في عراقة الاحتجاج الاجتماعي، الذي يعيد بناء حيوية النظام السياسي، لكن الأسس الحزبية والأيديولوجية لهذا النظام، تبدو في حالة تراجع عام، مع زيادة في مستوى التعقيدات البنيوية التي يعانيها النظام الاقتصادي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv8yca4s

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"