عادي
«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»

أحسن القصص

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
1

د. سالم الشويهي

قصة يوسف، عليه السلام، ذكرها الله تبارك وتعالى مفصلة في سورة سميت باسمه، قال بعض أهل العلم: «قراءتُها تُغني عن تفسيرها» لوضوحها، فالذي يقرأ سورة يوسف يفهم القصة تماماً ويتلذذ بها، فهي، كما قال، سبحانه وتعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم، في بدايتها: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ». ومن وجوه حسنها: أنها وردت متكاملة بكل أحداثها في نفس السورة، أما بقية قصص الرسل فتذكر في عدة مواضع، وفي مناسبات عديدة بقصد العظة والاعتبار، ولذا قال بعضهم: «الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه»، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»، فالقصص والأخبار والسير من أقوى عوامل التربية والثبات.

ومن وجوه حسنها كذلك: أنها بدأت برؤيا، وانتهت بتحقق تلك الرؤيا، فكانت نهايتها نجاحاً وحسن مآل، وهي أمل لكل مَن يريد أن ينجح رغم واقعه المرير، فكأنها تقول: «ولا تيأسوا مِن رَوحِ الله».

فلِمَ اليأس؟ «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ». لذا قال بعض العلماء عن سورة يوسف: «ما قرأها محزونٌ إلا سُرِّي عنه».

وخلّد الله قصة يوسف في كتابه الخالد لتعتبر البشرية وتقتدي به. قال ابن القيم في معرض كلامه عن قصة يوسف: «وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحِكَم: ما يزيد على ألف فائدة».

وقد بدأت القصة برؤيا رآها يوسف وهو صغير: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا». هذا بين إخوة، فما بالك بالأباعد! فأطفئ نار الحاسدين بإخفاء مميزاتك عنهم، فالعين حق و«ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يُبْديه، والكريم يُخْفيه». وفي الحديث: «اسْتَعِينُوا عَلَى إنْجَاحِ الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ، فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ».

وكم من نعمة بحسد الغير فسدت، فقصة يوسف سلوة للمظلوم والمحسود والمبتلى، فكان كيد إخوة يوسف له وهو طفل صغير وأبوه شيخ كبير كيداً كبّاراً «إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ»..

ولما قوي الحسد وبلغ منتهاه قال إخوة يوسف فيما بينهم: «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ»، وهم يعلمون أن الذي عزموا عليه ذنب عظيم وخطيئة كبيرة، لذا قالوا لأنفسهم: «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ»، فعزموا على التوبة قبل وقوع الذنب. إنه تفكير شيطاني.. فالتوبة الجاهزة التي تُعد سلفاً قبل ارتكاب المعصية لإزالة معالم الجريمة، ليست بتوبة، وإنما هي تبرير لارتكاب الخطيئة يزينها الشيطان الرجيم! وقد ينتج أعظم الفساد الآني من فكرة الصلاح المستقبلي وكأن الجريمة لا تترك في القلب نكتة سوداء تؤرق صاحبَها إلى أن يموت.

وما قاله إخوة يوسف يسول به الشيطان لكل إنسان في كل معصية يرتكبها لأول مرة فيوسوس له: (أول مرة وآخر مرة) وما درى أن الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا، وَتُولِدُ بَعْضَهَا بَعْضًا، حَتَّى يصعبَ على الإنسان مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا.

وكَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:«إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا»، فتسويف التوبة وتسويل النفس بأنه آخر الذنوب مدخل شيطاني لاقتحام المعاصي ثم الإدمان عليها فتجده يُوَاقِعُ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا، إِلَّا بِمَا يَجِدُ مِنَ الْأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا. كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الشاعر المبتلى بالخمر:

وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ... وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا

فرجاء التَّوْبَةَ بَعْدَ فِعْلِ الخطيئة، هُوَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى:«بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ». قال غَيْر وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: «هُوَ الَّذِي يُعَجِّلُ الْمَعْصِيَةَ وَيُسَوِّفُ التَّوْبَةَ» فيَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ وَلَا يَتُوبُ، حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله مآرب كانت في الحياة لأهلها عِذاباً فصارت في الممات عَذاباً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n9x4v9e

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"