الحاجة إلى المنظوماتية عربياً

01:01 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

ينتمي مجمل التفكير التحليلي العربي إلى ما يعرف بالتفكير الجزئي الاختزالي، الذي ينطلق في فهمه للظاهرة الاجتماعية من مدخلين، أو اتجاهين، الأول صعودي، أي أنه يصعد من الجزء نحو الكلّ، والثاني خروجي، أي أنه يبدأ من دراسة الظاهرة في داخلها، وصولاً إلى وصف محيط الظاهرة، وهذه الآلية في التفكير التحليلي، تزامنت خلال القرن الماضي، مع ضعف الاهتمام بالعلوم، الأمر الذي يمكن قياسه والتحقّق منه عبر مراجعة تصنيف الجامعات العلمية العربية في سلّم الجامعات العالمي من جهة، ومراجعة ميزانيات الإنفاق على البحث الأكاديمي والعلمي من جهة ثانية.

 هذا التفكير التحليلي الجزئي والاختزالي، هو الآلية التي حكمت سياقات تحليل الوقائع، حتى أن استنتاجات هذه الآلية، تحوّلت مع الوقت إلى بديهيات ثابتة، في توصيف وفهم الوقائع، خصوصاً في العالم الأكاديمي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن علم التاريخ العربي، لا يزال ينظر إلى الوقائع التاريخية بوصفها تتالياً للأحداث، بحيث يتحوّل التاريخ إلى سلسلة خطّية للأحداث، وهي نتيجة منطقية لفهم يقوم على الاختزال، أي اختزال الظاهرة الاجتماعية التاريخية في سلسلة من العناوين الجزئية، بحيث يصبح تاريخ منطقة، أو إقليم، أو دولة، متطابقاً مع العناوين السياسية الكبرى، من دون كثير اعتبار لكون هذه العناوين هي نتائج عمل منظومة اجتماعية، حوّلت عناوين معينة من دون غيرها من حالة الكمون إلى حالة الواقع.

 في مثال قريب، تعامل القسم الأكبر من الإعلام العربي مؤخراً مع الذكرى العشرين للاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، بالآلية الاختزالية ذاتها للمنطق التحليلي العربي، حيث تمّت استعادة تاريخ العراق بوصفه تاريخ عناوين سياسية كبرى لا غير، وبالتالي، فإن تاريخ العراق الحديث، يمكن اختزاله، وفق هذا المنطق، إلى عدد من العناوين الرئيسية الكبرى، من مثل الانتداب البريطاني، المَلكية، حكم البعث، الحرب الإيرانية، غزو الكويت، حصار العراق، ثم الاحتلال، والنظام الحالي.

 وفق هذا التحليل، يصبح تاريخ العراق الحديث مجرد إحلال سلطة مكان أخرى، وهذا الوصف هو وصف صحيح، جزئياً ونسبياً، لكنه لا يحلل مجمل منظومة العراق الحديث، بل الأخطر من ذلك هو تكريس وعي يقول إن التغيير التاريخي محوره فقط السلطة، كأن بنا نقول إن السلطة في حالة استقلال وانعزال عن المنظومة الاجتماعية، بدلاً من الذهاب نحو تحري طبيعة السلطة نفسها، وتكريسها لوقائع معينة، تجعل من مجمل الصراع الاجتماعي صراعاً على السلطة، وليس من أجل إحداث تغييرات في المنظومة الاجتماعية برمّتها، وليس في السلطة فقط.

 وكنتيجة منطقية لهذا المنطق التحليلي الجزئي والاختزالي، تراجعت مكانة البحث الاجتماعي، في إطار مفارقة تشهدها جامعات العلوم الاجتماعية العربية، التي تخرّج سنوياً أعداداً كبيرة في مختلف المجالات، من دون أن ينعكس ذلك عملياً في البحث الاجتماعي، وهو أحد العمليات الكبرى المنهجية لفهم الوقائع الاجتماعية، وأثر بعضها في الآخر، وعلى الرغم من حدوث تقدّم تكنولوجي كبير في العقدين الماضيين، يتيح للباحث الاجتماعي الاستفادة من قواعد بيانات كبيرة، أو حتى التواصل مع العيّنات الاجتماعية، إلا أن هذا التقدّم التكنولوجي لم يشقّ طريقه بقوة نحو عالم البحث الاجتماعي.

 إن إحداث فارق كبير في التحليل، يتطلّب إحداث نقلة نوعية في منهج البحث، وآليات مختلفة في فهم الظواهر الاجتماعية، فخصائص المركّب، مطلق مركّب، لا تتشابه مع خصائص المواد الداخلة في التفاعل، وهذه هي القاعدة الكيميائية في فهم خصائص مركّب منتج من عناصر عدة، ما ينطبق على عالم الإنسان العضوي، أو مجال الظواهر الاجتماعية، بل إن معرفة الجزء تأتي من معرفة الكلّ، ما يسمى ب«قاعدة باسكال»، نسبة للفيلسوف والفيزيائي الفرنسي الشهير بليز باسكال (1623-1662).

 هل يمكن إحداث تقدّم في المجتمع والدولة ونمط الحياة والاستهلاك والعلاقات الاجتماعية في ظل منظومة اجتماعية قديمة تقوم باستمرار بإعادة إنتاج نفسها؟

 هناك حاجة ملحّة للخروج من التحليل الاختزالي إلى المنظوماتية، بحيث يكون بالإمكان إعادة قراءة تاريخنا، القديم والحديث، بوصفه منظومات، وليس مجرد أحداث، حتى يتاح لنا فهم عمليات التعثّر المستمر أمام التقدّم في هذه المنطقة من العالم، لكن مثل تحوّل كهذا لن يكون ممكناً إلا عبر مسار منظوماتي جديد، يولي أهمية كبرى لبناء عمليات تربوية مخالفة للسائد، مؤسّسة على التفكير النقدي الحر، وعلى النسبية والشك، والبحث العلمي، والخروج من عالم اليقينيات إلى عالم الفحص والملاحظة والتجريب العلمي، وفي وضع حدّ لتدخل الغيبيات في الفضاء العام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdf5a8jm

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"