مأزق التغيير العربي

00:49 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

كل ما راهن عليه الشباب العربي في غير دولة من دول المنطقة، من أجل التغيير، يبدو اليوم وكأنه مجرد رغبات حول استحقاق تاريخي مطلوب، لكن دونه كوارث، أخرجت دولاً من كيانيتها وسيادتها، ووضعت مجتمعاتها في مهب المجهول.

  مؤخراً، السودان يصل إلى هذه النتيجة، على خطى دول أخرى، ولم تشفع له إرادة القوى المدنية في إحداث انتقال سلمي للسلطة، وفتح صفحة جديدة في تداول السلطة، والاهتمام بالاقتصاد والتنمية، والعمل على تحقيق رفاهية الشعب بدلاً من إفقاره، ووضع أسس لاستقرار مجتمعي مديد، بدلاً من تحويل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف إلى نازحين ولاجئين، في تكرار للسيناريو ذاته الذي عرفته شعوب شقيقة.

مفهوم أن يكون التغيير السياسي أو المجتمعي أو كليهما في أزمة، ليس فقط في عالمنا العربي؛ بل في معظم دول العالم، فالأزمات، كما هي تعبير عن مشكلات موجودة، هي في حالات كثيرة تعبير عن حيوية المجتمع، لكن أن تتحوّل الأزمات إلى مآزق، يستعصي معها، ليس فقط حل الأزمات؛ بل جعلها سبباً في هلاك البشر، وتكسير أسس الوفاق المجتمعي، وهدم الدول، فهذا يستدعي تحليلاً آخر لمجمل البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وعدم الركون إلى تحليلات أحادية، من قبيل أن ما شهدته المنطقة في مسعاها للتغيير، كان فقط صراعاً على السلطة.

   يمكن استسهال التحليل، والذهاب به إلى سياق يضع المجتمع والسلطة كضدين لا يلتقيان، وينفي أحدهما الآخر، ما يعني بالضرورة حينها إلقاء اللوم كاملاً على أحدهما، كأن نتهم المجتمع بعدم النضوج من أجل إحداث التغيير، أو أن نجعله بريئاً، ونلقي اللوم كاملاً على السلطات السياسية، لكن هذا الاستسهال، إضافة إلى كونه موقفاً ثقافياً سياسياً بامتياز، ينطلق من موقف منحاز لطرف ضد الآخر، فهو موقف مضاد للمعرفة؛ إذ من الصعوبة بمكان؛ بل من الخطأ الفادح، وعي المجتمع والسلطة ككيانين منفصلين، يعملان بطريقتين مختلفتين في إنتاج قيمهما الخاصة.

  تحليل هذا الفهم الأحادي، وتفكيك أسسه النظرية، ودحض مساراته العملية، أمر راهن اليوم لفهم أسباب ما نحن فيه، لكن هذه العملية ليست أمراً تكتنفه صعوبات كثيرة، بسبب تعقيدات البنيتين الاجتماعية والسياسية فقط؛ بل أيضاً بسبب راديكالية القوى المدافعة عن هذا الفهم الأحادي، فالقوى التي تبرئ المجتمع، بمنظومته وقيمه، وتحمّل السلطة السياسية وزر معاندة التغيير، هي تدافع عملياً عن منظومة قيم غارقة في معظمها في التقاليد السلطوية الهرمية، وتعاند التطورات الثقافية والقيمية الحداثية.

  في المقابل، فإن القوى المدافعة عن الأنظمة السياسية في مواجهة التغيير، تستسهل اتهام المنظومة الاجتماعية بعدم النضج، وعدم الجهوزية للتغيير، وقد لا يكون هذا الرأي خاطئاً كلياً، لكنه يغفل مسألة بنيوية أساسية، وهي أن أي نظام سياسي هو تعبير أعلى، أو بنية فوقية، تعلو البنى الأخرى، لكنها جزء لا يتجزأ منها، وأن وجودها تأسس على تلك البنى، بتوازناتها وقيمها، كما أن القوى المتبنية لهذا التحليل، تكرّس من الناحية العملية مصالح النخب السياسية الحاكمة.

  وضع المجتمع والسلطة في حالة ضدية، يغيّب السؤال حول معنى التغيير المنشود؛ حيث يتم شطب فكرة التقدم، لمصلحة تقديم سرديات حول المجتمع والسلطة، ترفع من قداسة أحدهما، لتشيطن الآخر، بينما وضع فكرة التقدم كأساس وبوصلة وهدف لعملية التغيير، يجعل من الممكن فعلياً التعامل مع المجتمع والسلطة السياسية بوصفهما منظومة، يستهدفها الفعل التغييري، أي أنه يستهدف تفكيك التقاليد السلطوية وإرثها الفكري والثقافي والمجتمعي، والتي لا تزال تقف عائقاً تاريخياً أمام فكرة التقدم التاريخي.

إن وضع فكرة التقدم التاريخي، بركائزها الثلاث، العقلانية والحداثة والكونية، كوحدة قياس لمفهوم التغيير، من شأنها أن تكشف مدى التطابق في وعي الفريق الذي يرى التغيير مسألة سياسية محضة، أو الذي يراه رهناً فقط بتطور المجتمع، واضعاً هذه المقولة في إطار مبهم غالباً، وهذا التطابق في وعي الفريقين هو أحد أسباب وأوجه المأزق الذي وضعت فيه عملية التغيير العربي.

الخروج من هذا المأزق، رهن عملية إعادة تعريف لمفهوم التغيير نفسه، بوصفه عملية تقدم تاريخي، تستهدف فيما تستهدف عملية هدم وإعادة بناء منظومة القيم المؤسسة للمجتمع والسلطة السياسية معاً، مع التأكيد أن إعادة التعريف هذه شرط ضروري، لكنه غير كافٍ.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/rmyr5c7s

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"