السلام المجتمعي والفعل التواصلي

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

لماذا تنفجر المجتمعات من داخلها، ولمَ تقع في حالة من الحرب بين مكوناتها، وما الذي يجعل مجتمعاً دون غيره قابلاً للانجرار إلى الاقتتال تحت عناوين جهوية أو دينية أو مذهبية أو إيديولوجية؟

 في عالمنا العربي، ينبغي أن تأخذ الأسئلة آنفة الذكر مساحة من الدرس والنقاش، فلا شيء أكثر خطورة من القفز فوق الأسئلة الحيوية وتجنّبها، في محاولات سياسية/ إيديولوجية لبث صورة غير صحيحة عن التلاحم الاجتماعي الوطني، في الوقت الذي أثبتت فيه وقائع العقود الماضية أن أية خلخلة للأوضاع القائمة قد تذهب بالمجتمع نحو الاقتتال، وبالتالي إلى حالات من التذرر والفوضى، بكل ما فيها من كوارث عمرانية واقتصادية وإنسانية، أصبحت عنواناً رئيسياً لعدد من بلدان عالمنا العربي.

الدولة بوصفها تجسيداً للعقد الاجتماعي، تفقد حضورها الكلي أو النسبي، والهوية الوطنية تتراجع لمصلحة بروز الهويات الفرعية ما دون الوطنية، وبدلاً من تعريف الفرد نفسه بدلالة المواطنية، يعود ليصبح مجرّد رقم في لوحة جماعته الضيقة، وتصبح الشعارات الجامعة لا معنى لها، فالحروب الأهلية تكشف هشاشة الأسس الوطنية، والأهم من ذلك أنها تكشف ضعف تكوين الدولة، وعدم قدرتها على بناء مشتركات وطنية.

 في الدول التي لم تنجز مرحلة الدولة/ الأمة، أو ما يتعارف عليه ب«الدولة الحديثة»، ترسم الأنظمة السياسية صورة الوفاق الوطني من خلال إظهار التعايش بين المكوّنات، وهي الصورة الأكثر حضوراً إعلامياً في المناسبات الوطنية العامة، لكن هذه الصورة نفسها تتضمّن إشارات بليغة إلى أن حالة التعايش هذه تعترف بالمواطنين من خلال انتماءاتهم الفرعية، وليس من خلال وجودهم الفردي المواطني، أو أنها في أفضل الأحوال تجعل من فكرة السلم رهن حالة التعايش بين مكونات، بصفتها الأهلية وليس بصفتها الوطنية.

 من السهل أن نتتبع اليوم كيف تسود عدد من الدول العربية خطابات تُعلي من شأن المكونات الأهلية، في ظل الغياب الكلّي أو النسبي للدولة ومؤسساتها، خصوصاً الخطاب الديني/ المذهبي، والمشرق العربي اليوم هو الصورة الأبرز لهذا النموذج، في الوقت الذي يتسيّد فيه الخطاب الجهوي في بلد مثل ليبيا، ولئن كان حضور المكونات الأهلية أقوى من حضور الدولة، فذلك ليس لأن تلك المكونات حافظت على تماسكها البنيوي في مقابل الدولة، بل لأن الدولة، ونظامها السياسي، مارست لعقود من الحكم نوعاً من التعمية على الفضاء المجتمعي ومشكلاته، وأغلقت الفضاء العام في وجه الحوارات المجتمعية المطلوبة، واحتكرت تشكيل الصورة الوطنية لنفسها.

في هذا السياق، إن تحويل النسبي إلى مطلق، أي تحويل الهوية الفرعية إلى هوية غير قابلة للنقد، وجعلها قيمة مطلقة تقاس بها باقي القيم، هو الاستبداد بعينه، حيث تصبح الذات معصومة عن أي خطأ سياسي أو أخلاقي، بينما يتحول الآخر إلى منشأ كل العلل والعيوب السياسية والأخلاقية، فهذا ما يجعل من السهل بمكان العمل على إلغاء الآخر، الذي يبدأ بنفيه قيمياً، بل وأحياناً جعله في مرتبة دون بشرية، وهو ما تحفل به معظم خطابات الكراهية، كل ذلك لتسهيل عملية شطبه واقعياً من خلال الحرب.

 الحرب بحدّ ذاتها شكل من أشكال غياب الفعل التواصلي بين الذات والآخر، وهي بهذا المعنى ليست تعبيراً بالدرجة الأولى عن تناقضات في المصالح، بل هي تعبير عن سوء فهم عميق بين الأطراف المتحاربة، وجهل بطبيعة الآخر، جهل يتضمّن كل أشكال التحقير في حالات عديدة، من دون أدنى رؤية معرفية للشروط والظروف الموضوعية، أو فهم لطبيعة التنوّع والتعدد الاجتماعي، الذي يمكن استثماره كعامل إغناء ثقافي ومجتمعي وإنساني، وعدم اعتباره نقيضاً لقيم الذات وخصوصياتها.

 ضحايا الحروب الأهلية هم بشكل من الأشكال ضحايا سوء فهم تاريخي متبادل بين أطراف مجتمعية، لم يتسنَ لهم خوض غمار فعل تواصلي حقيقي وبنّاء، وفي الوقت نفسه ضحايا لاستعلاء الذات مقابل تسفيه الآخر، ومنحها الحقّ في استخدام القوة لشطب الآخر من الوجود، بل والتغني بهذه القوة، والاحتفال بمشهد سحق الآخر وقتله.

الانتقال من الحروب الأهلية إلى السلام المجتمعي/ الوطني المستدام، أو تجنّب انزلاق المجتمعات إلى مثل هكذا حروب، له شروط عديدة، وكلّها مهمة، لكن ينبغي أن يأتي في مقدمتها الفعل التواصلي، لإزالة أسباب سوء الفهم التاريخي المتبادل بين الأطراف، وتجاوز حالة الجهل بالآخر، وبناء مفهوم جديد حول الذات، كي يكون بالإمكان بناء سلم قيم جديد، يصبح معه الانتماء الأول للمواطنية، لكن هذا كله مرهون أيضاً بقدر كبير من الحرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4wawpbja

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"