صراعٌ وتجليات متعددة

00:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

من البيّن أن الطلب الشديد على السلطة، من قِبل الجماعات الاجتماعية المختلفة في كل مجتمع، هو ما يفسّر ظاهرة الصراع عليها. حين يجنح ذلك الصراع لأن يكون سلمياً يغلب عليه منحى التنافس، ولا تتولد من نتائجه السياسية مضاعفات اجتماعية سيئة؛ أمّا إن توسّل أدوات العنف فحينئذٍ يصير صراعاً إلغائياً يستَجِرّ تبعات ثقيلة على قواه وعلى المجتمع برُمّته. على أنه ليست الأدوات المتوسَّلة في أي صراع هي وحدها ما يحدد مضمونه، وإنما يتحدد أيضاً بنوع الأهداف التي يتغيّاها المشاركون في ذلك الصراع. على أن الصراع على السلطة لا تتعدد صورُهُ تبعاً للأسلوب الذي يجري فيه فقط (سلميّ، عنيف...)، بل تتعدد تبعاً لنوع القوى الاجتماعية التي تنخرط فيه، والتي يتغير محتواهُ بتغيرها أو قُل بنوع انقساماتها الاجتماعية واستقطاباتها.

وثمة -على الأقل- أنواع ثلاثة من الصراعات على السلطة: صراع بين نخبة حاكمة وقوةٍ سياسية مدنية (طبقية) أو أهلية (عصبية) معارضة، وصراع بين نُخب مدنية ونُخب عسكرية، ثم صراع داخل نخبة حاكمة (مدنية أو عسكرية) بين قواها المتنافسة على حيازة السيطرة والإِمْرَة داخل كتلة السلطة. ولكل نوعٍ من هذه الأنواع الثلاثة من الصراع سمات خاصة تُميزه.

   قد يكون الصراع في النوع الأول (بين نخبة حاكمة وأخرى معارضة) صراعاً أفقياً بين قوتين أو قوى تنتمي إلى تكوينات طبقية متعددة، وتعبر كلُ منها عن مصالح مختلفة. في هذه الحال يكون صراعاً بين رؤًى وخيارات برنامجية تدور بمفرداتٍ سياسية صريحة. وهذا شأن الصراعات السياسية التي تجري في مجتمعات نجحت في تحقيق القدر الضروري من الاندماج الاجتماعي فيها (بحيث يحميها من الانقسام على حدود الدين، والطائفة، والعِرق، والعصبيات الأهلية)، وتقدمت فيها عملية التبنْيُن الاجتماعي إلى حدودِ تَبَلْوُرِ بنيات طبقية وفئوية واضحة (طبقة وسطى، وطبقات مالكة لوسائل الإنتاج، وطبقات منتجة...) عابرة للتكوينات الأهلية التقليدية (القبلية، والعشائرية، والمناطقية...). وإذا كان هذا الضرب من الصراع على السلطة سمةَ المجتمعات الرأسمالية والصناعية الحديثة فإن قسماً كبيراً من بلدان الجنوب يشهد على أشكال كثيرة منه.

 وقد يكون الصراع عمودياً في هذا النوع الأول المشار إليه؛ أي قائماً بين سلطة سائدة ومعارضات أهلية عصبوية (طائفية، ومذهبية، وقبلية، ومناطقية، وأقوامية...)، وحينها يترجم انقساماً اجتماعياً على حدود التكوينات التقليدية الموروثة، ويكون صراعاً فئوياً تلغي فيه فئةٌ (عصبية) فئةً ويتخذ، في الغالب (في لحظةٍ من ذُرى احتدامه)، شكلَ حربٍ أهلية مدمرة. وهذا شأن الصراعات التي تَشُبّ حرائقُها في مجتمعات تعاني فقراً حاداً -أو حتى عُسْراً شديداً- في تحقيق اندماج اجتماعي ينتقل بها من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة، ومن الولاءات الفرعية (الولاء للطائفة، أو المذهب، أو العشيرة) إلى الولاء الأعلى الجامع للوطن والدولة. ومثل هذه الصراعات العمودية على السلطة شائعة، من أسفٍ شديد، في كثير من بلادنا العربية.

  الصراع، الذي من النوع الثاني، بين النخب المدنية والنخب العسكرية على السلطة فاشٍ في قسم كبير من العالم، خاصة في بلدان الجنوب (كما في بعض بلدان الغرب قبل نصف قرن: في إسبانيا، والبرتغال، واليونان). 

  وحيازةُ السلطة فيه، من الجهتين، تَحْدُث إما من طريق توسُّل القوة المسلحة وإحداث انقلابٍ عسكري ينقل السلطة إلى مؤسسة الجيش، وإما من طريق انتفاضات شعبية عارمة تشل الاقتصاد والحياة وتُجبر النخبة العسكرية على نقل السلطة إلى المدنيين. ولكن يبدو أن هذا النوع من الصراع آخذ في الانحسار التدريجي بعد أن ظل، لعقودٍ ممتدة، الأسلوب الرئيسي لانتقال السلطة في قارتين: إفريقيا وأمريكا اللاتينية.

 أما الصراع الثالث داخل النخبة الحاكمة -مدنيةً كانت أو عسكرية- فهو الآلية العاملة، باستمرار، في كل حقلٍ سياسي حتى وإن بَدَا، في المعظم من الأحيان، أن الوصول إلى السلطة يعطِّل كل صراع، بل يحمل على المزيد من الوحدة للحفاظ على هذا المكتسب من قوى أخرى يمكن أن تهدده من خارج السلطة. 

  من الواضح أن الأمر يتعلق، فعلاً، بقانون اجتماعي لا يَعْرَى منه مجتمعٌ ولا دولة. على أن احتدادَه أو خفوت حِدّته درجتان متفاوتتان تُؤْذنان بمقدار ما تتمتع به سلطةٌ ما من استقرار، أو بمقدار ما تفتقر إليه من ذلك. هكذا يؤشر انخمادُ جمْر ذلك الصراع على تلك الحال من الاستقرار، فيما يُفْصح ارتفاعُ درجة حمُوّته عن نقصٍ في ذلك الاستقرار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yj45vy9c

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"