الغازي في الوعـي العربـي الحديث

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

الآخَر عند عربيِّ العصور الحديثة مختلف عن آخَرهِ في الأزمنة الماضية. ما عاد يرمُز إلى ذلك الوثنيّ، أو اليهوديّ، أو النّصرانيّ، أو المانويّ، أو الفارسيّ والبيزنطيّ والصّليبيّ والهندوسيّ والمغوليّ...؛ فلقد اختفى هؤلاء من المسرح ليظهروا في أشكال أخرى جديدة، وليحملوا تسميات أخرى جديدة: أوروبا، الغرب، الاستعمار، العثمانيّون... إلخ. ليس معنى ذلك، حُكْماً، أنّ ما كان من استقطابٍ - في علاقات الأنا بالآخر- قد توقّف عن أن يستمرّ استقطاباً دينيّاً أو قوميّاً أو ثقافيّاً (النّموذج الحضاريّ) في الأزمنة الحديثة. لا؛ فقد استمرّ الاستقطابُ ذاك يفصِح عن نفسه على المنوال عينِه مع شيءٍ من التّعديلات التي اقتضتها الظّروف الجديدة. من آيِ ذلك واقعتان تشهدان لاستمرار مفعول ذلك الاستقطاب - على الأقلّ في الوعي - إلى الزّمن الحديث:

 أولاهما، أنّ إسلاميّي الأزهر والقيروان والقرويّين، من فقهاء ومتخرِّجة، وجماعات السّلفيّة في القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين - بل حتّى بعض كتّاب الإصلاحيّة الإسلاميّة - ظلّوا، ولآمادٍ مديدة، يرون في حدث الغزو الكولونياليّ الأوروبيّ للبلاد العربيّة والإسلاميّة فِعْلَ استئنافٍ تلقائيّاً للحروب الصّليبيّة على دار الإسلام، ولحروب «الاسترداد» في الأندلس، ومسعًى متجدِّداً إلى قهر شوكة المسلمين وتنصير مجتمعاتهم وشعوبهم. وفي غمار ذلك الاندفاع نحو تجديد العمل بمنظورات الماضي وأدواته وصُوَره، ذهلوا عن الطّبيعة السّياسيّة- الاقتصاديّة والجيوستراتيجيّة للمشروع الاستعماريّ الأوروبيّ، الذي نَما في بيئة المصالح الرّأسماليّة الحديثة لا في الكنائس وأَدْيِرة الرّهبان!

وثانيتهما، أنّ انشقاقاً جديداً داخل الأنا الجمْعيّة الإسلاميّة نشأ مجدّداً، مع مطالع القرن العشرين، على أسسٍ قوميّة فكان من علائمه ما اضطرم من نيران التّناقض والصّراع بين قوى الفكرة القوميّة العربيّة الصّاعدة وقوى المشروع الطّورانيّ العثمانيّ، وبين فكرة الاستقلال القوميّ للولايات العربيّة داخل السّلطنة وسياسات التّتريك القسريّ التي نهجتْها النّخب التّركيّة في تلك الولايات، خاصّةً بعد صعود «حزب الاتّحاد والتّرقّي» إلى السّلطة في الآستانة (1908). أحدث هذا الاستقطاب القوميّ الجديد قطيعةً مع فكرة «الرّابطة العثمانيّة» ومحاولات إصلاحها من الدّاخل («حزب اللاّمركزيّة الإداريّة العثمانيّ» مثلاً)، ليعيد تأسيس علاقة في الأنا/الآخَر على منوالٍ جديد يتنزّل فيها التّمايُز القوميّ منزلةَ قطب الرّحى من تلك الثّنائيّة.

 نتأدّى من هذا إلى القول إنّ الواقعتين المومأ إليهما - إلى جانب أخرى - تقومان دليلاً على أنّ المُضْمَرات الدّينيّة والقوميّة في جدليّات الأنا والآخَر لم تبْرَح تلك الجدليّات في تعبيراتها الحديثة والمعاصرة، وإنْ هي اكْتست هيئات أخرى متناسبةً ونوع التّناقضات المركّبة الجديدة.

 اصطدمتِ الأنا العربيّة الحديثة بآخَرها في فضاءيْن اجتماعيّين مختلفين، حتّى لا نقول متناقضين: في فضاءٍ ابتدائيّ داخليّ تَمثَّل في البلاد العربيّة التي غزاها الأوروبيّ وأقام فيها حكماً عسكريّاً مباشراً وإدارة استعماريّة؛ وفي فضاءٍ خارجيّ هو البلاد الأوروبيّة التي شدّ الرّحال إليها كثيرون بدواعٍ مختلفة (دبلوماسيّة، تجارة تعليم، عمل، استطلاع...). لم يكنِ الآخَر (الأوروبيّ) قد عرَّفَ بنفسه، ولا بنموذجه الحضاريّ، تعريفاً كاملاً في لحظةِ إِقدامه على احتلال البلاد العربيّة، وإحكام عساكره ومستوطنيه قبضةَ السّيطرة عليها. بَدَا تعريفُه، حينها، جزئيّاً أو- لِنَقُل- بجزءٍ ممّا ينطوي عليه نظامُه المجتمعيّ والحضاريّ: القوّة والنِّظام؛ حيث إنّ الشّعوب العربيّة الموطوءة أراضيها لم تتعرّف في ذلك الغازي على شيءٍ من معطيات عالمِه إلّا على عساكره وعلى شوكتها، كما على حُسن ترتيب إدارته ونظامها؛ أي على ما يرمُز، بالتّالي، إلى القوّة الماديّة لديه.

 ومع أنّ مجرّد العِلم بعظيمِ تلك القوّة الماديّة التي يَحْتازها ذلك الغازيّ كافٍ ليرفع من درجة الإعجاب بمورد نجاحاته، إلاّ أنّه ما أَطْلَعَ تلك الشّعوب على أسرار نجاحاته الفعليّة، بل ظلّ يحجُب منها الكثير عنها. وسيمرّ وقتٌ طويل قبل أن تبدأ فئات عريضة من الشّعوب المغلوبة في الاتّصال المباشر بالتّجمُّعات السّكّانيّة المدنيّة للغالب المستعمر (في أحياء الاستيطان الأوروبيّ)، فتتعرّف إلى بعض قيمها ونُظُم معيشها، لتبدأ معها في نسج علاقاتٍ مّا من التّبادُل الاجتماعيّ والتّواصُل فَرضها عليها وجودُها الماديّ، وما ولّدهُ ذلك الوجود من ضرورات موضوعيّة ومن مصالح اقتصاديّة وحياتيّة جديدة جذبت إليها، بالتّدريج، شرائحَ اجتماعيّة متزايدة من الأهالي، وشدّتْها إليها بألف رباط. 

مع ذلك، ظلّت صورةُ ذلك الآخَر الجديد، في الوعي الجمْعيّ العربيّ، ناقصةً أو غير مكتملة على الرّغم ممّا تولّد منها من كبيرِ نتائج، من قبيلِ توزُّع النّظر إلى ذلك الآخَر بين حدّيْن قَصِيَّيْن: الرّفض والإعجاب. ولن يكون في وسْع العِلْم به وبعالمِه ومدنيّته أن يتّسع مساحةً، في الوعي العربيّ، إلاّ بالتّعرُّف إليه في موطنه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/msjwu95x

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"